في شعر أمل دنقل حال من النقد الحضاري المهمّة للواقع العربي والمصري. ففي كثير من قصائده، يتحقق نسق ثابت من نقد التهدم والضعف وكثير من المساوئ التي وقع بها العرب في المرحلة التي عاشها ورآها واحدة من فترات الضعف. ربما ركّز كثير من النقاد والقرّاء على قصيدة «لا تصالح»، وبخاصة الثوريين وكل من عاشوا حالاً ممتدة من الرفض بتمثيلاته السياسية أو الاستعمارية كافة أو رفض شكل الحكم الذي يختلفون معه ويرغبون بشكل آخر. ولكن الحقيقة أن ثورة أمل دنقل وشحنات الغضب لديه ونقده الحضاري للواقع، لم تقتصر على الرفض السياسي، بل ثمة شكل أكثر اتّساعاً للرفض لم يركّز عليه كثير من نقادنا برغم وفرة حضوره في قصائد عديدة. لقد نقد وواجه أمل دنقل في قصائده غياب الحب وطغيان الكراهية، انحسار العقل وهيمنة الجنون وغياب المنطق وانعدام الرؤية أو ضبابيتها، وغياب العدالة وغيرها الكثير من السلبيات العامة المهيمنة بشكل شامل على المجتمع وليس على فئة بعينها أو طبقة بعينها مثل طبقات الحكم، كما تم اختزاله بحسب الصورة الأكثر ذيوعاً عنه.
في شعره حسّ إنساني يتجاوز الإطارين المصري والعربي، نحو إنسانية أكثرعقلاً وعدلاً وإنصافاً وجمالاً

في هذا النقد الحضاري داخل الخطاب الشعري لأمل دنقل، ثمة حسّ إنساني يتجاوز كثيراً الإطارَين المصري والعربي، بل يأمل في إنسانية أكثر عقلاً وعدلاً وإنصافاً وجمالاً، وهو ما نراه في «سفر التكوين» (الإصحاح الثالث)، حين قال: «قلت فليكن الحب في الأرض/ لكنه لم يكن/ قلت فليذب النهر في البحر، والبحر في السحب/ والسحب في الجدبِ/ والجدب في الخصب/ ينبت خبزاً ليسند قلب الجياع، وعشباً لماضية الأرض/ ظلاً لمن يتغرب في صحراء الشجن/ ورأيتُ ابن آدم ينصب أسواره حول مزرعة الله/ يبتاع من حوله حرساً/ ويبيع لإخوته الخبز والماء/ يحتلب البقرات العجاف لتعطي اللبن». هنا يقدم الشاعر تصوراً للنسق الأمثل الذي يفترض أن يتشكل الكون عليه، فيغلب عليه الحب والعدل، ولكن في مقابل هذا النسق، يطغى النسق الواقعي أو الحاصل بالفعل وهو الذي يتدخل به الإنسان فيخرب كل هذا. وبدلاً من النظام الرباني الذي يجعل العدل سائداً أو غالباً وتتوافر الأطعمة للجميع، يصبح الأمر على النقيض، ويتجلى الطمع الإنساني وضرب الأسوار على الخيرات والثمار واتخاذ الحراس، وتلك نتيجة طبيعية لغياب العدل. في المقطع السابق، نجد تصويراً لحركة الكون بما يخلق العدل، وفي مقابلها صورة أخرى لحركة الإنسان بما يسلب الكون هذا العدل. ومن طرفي تلك المفارقة تتشكل شعرية النص وتتحقق له القدرة على الإدهاش. وثمة مقابلة كذلك بين الرؤيتين العلوية والسفلية، لأن الحاصل في هذا المقطع الشعري أن الرؤية الأولى تأتي من أعلى عبر الأمر الإلهي أو مصدر الحركة والعدل في الكون، في حين يأتي مصدر مناقض هو الأدنى أو السفلي الذي يتجلى فيه دور الإنسان في الوجود. ثم يأتي التعقيب الإلهي على الصورة المختلة كاملة، والنتيجة العكسية التي تسبب فيها الإنسان، حين يقول: «قلت فليكن الحب في الأرض، لكنه لم يكن/ أصبح الحب ملكاً لمن يملكون الثمن/ ورأى الرب ذلك غير حسن».
في مقطع آخر، يقارب أمل دنقل صورة الوجود وهو مختل ومناقض للاختيارات العلوية التي تجعل قيماً معينة هي السائدة والمهيمنة، مثل العدل والعقل والحب، فيقول عن غياب العقل: «قلت: فليكن العقل في الأرض/ تصغي إلى صوته المتزن/ قلت: هل يبتني الطير أعشاشه في فم الأفعوان/ هل الدود يسكن في لهب النار؟/ والبوم هل يضع الكحل في هدب عينيه؟/ هل يبذر الملح من يرتجي القمح حين يدور الزمن؟». فيكون الأمر الكوني العلوي قد انهدم بمجموعة من الصور الأخرى المناقضة تماماً للعقل أو الدالة على غيابه التام، والغريب الطريف أن الحيوانات والطيور فقط هي التي التزمت بالعقل من دون الإنسان. ثم تكون النتيجة النهائية صريحة وصادمة حين يقول: أصبح العقل مغترباً يتسول/ يقذفه صبية بالحجارة/ يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني.... سقط العقل في دورة النفي والسجن/ حتى يجنّ». فهنا حال من التشخيص التمثيلي التي تحول القصيدة إلى طاقة مشهدية ثرية تجعل المتلقي مراقباً لحركة العقل المجرد وهو يتجسد في ما يمكن رؤيته وهو يُهان ويحاربه البشر.
* ناقد وأكاديمي مصري