عند مداعبةِ لحظاتِ الخلقِ الأولى، تشفّنا النوستالجيا. ترقّنا جناحاتُ يعاسيب تتهاوى، فنرى ما وراءها ببطءٍ يَتطاير. نرانا أجساداً متهالكةً جرَّاء السّفر البعيد. بعيدةٌ هذه الغيمة وناطحةٌ هذه السماء. كيف لم تنفجر قلوبنا جرّاء الهبوط الأوَّل. كيف هوت عظامُنا من سابعِ سماءٍ، وبقيت الرِجْلُ متّصلةً بالظهر. نراها. قصَّة الخلق خلف ستائر الوقت. هنا، حنّ آدم إلى ما لم يحصل، حنّ إلى ماضيه القادم بعد حين. حنّ إلى حياةٍ ثانيةٍ، وقبل مماته بقليلٍ حنّ إلى حياته الأولى.- البناءُ على أنقاضِ من بنوا، البناءُ على أنقاض ما تبقَّى من صورٍ في الرؤوس.
وطِئت أقدام آدم الأرض، فكانت الـ tabula rasa، أو اللوح الفارغ. يُعرَّفُ اللوحُ الفارغُ بأنه حالة الخلاء التام، الذي لا يتضمَّن شيئاً من الماضي، ولا تخميناً من المستقبل. هو حالة التفلّتِ التامة من قياس الزمن. وعليه، وطئ آدم أرضاً فارغة. أرضٌ أولى، فكان هو المعمارُ الأوّل. كيف لآدم أن يبنيَ من العدم. لآدم أن يبنيَ مستوحياً من بيته الأول.

اتيان لوي بولّيه ــــ «نصب تذكاري لنيوتن» (1784)

لا نعرفُ الكثير عن مسكن آدم الأول. نعرف أن «الَّذِينَ اتَّقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ». جنَّات عدنٍ وأنهرٌ وأشجارٌ كثيفةٌ، «وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ».
اليوتوبيا التي ينتظرها أكثر، لا تختلف كثيراً عما نراه من عِماراتِ اليوم. اليوتوبيا الأبدية لا تحتوي على مدنٍ سحرية، ولا على عِماراتٍ تطير من غيمةٍ إلى أخرى. هذا الوصف المنبثق من مشاهد حاضرة، يمثّل الوصف العام: غرفٌ فوق غرفٍ على مقربةٍ من الشجرِ والمياه.
إنها النوستالجيا لما سبق، النوستالجيا للموجود. ولعلَّ هذا أهمّ عنصرٍ في البيوت الأولى، عندما كان للعِمارة العاميَّة مجالٌ على الأرض. والعمارة العاميّة التي وُجدت قبل وجود اسمها، هي النوستالجيا القصوى للأرض. نوستالجيا حنين التراب، الذي يجعلُ الناس تبني بيوتها من دون معماريين، مستخدمةً المواد الطبيعيَّة المحلية. يندثِرُ هنا الداخلُ والخارج، وتتحوَّل النوستالجيا المعمارية، من نوستالجيا اليوتوبيا إلى نوستالجيا الطبيعةِ الأم، رحم الخلق.
يترافق مع النسيج المعماريّ والمدينيّ، نسيجٌ اجتماعيٌ يتماشى مع ما تفرِضُه العِمارة.
العمارةُ تفرض نفسها، وفي معظم الأحيان تفرض نوستالجيّتها.

نوستالجيا صورةُ الشيءِ، لا الشيءُ نفسُه
تخدعُنا النوستالجيا، تخدعُنا الذاكرة. للأخيرة قدرةٌ انتقائيةٌ عجيبة. يحدث الانتقاء جرّاء أسباب غير مفهومة، جرّاء أسبابٍ دفينةٍ تطفو بخجلٍ على الوعي، وبكثير من التلكّؤ. النوستالجيا الخدّاعة تلك، التي تنفجر شعورياً ناسفةً أيّ ذاكرة علميّة. نوستالجيا المباني التي تغدو أطول بكثير مما هي، أو أقصر بكثير. نوستالجيا الشوارع العريضة، والأرصفة الشاسعة، والأشجار المنبثقة من رحم الأرض، خضراء ومكتنزة أكثر بكثير مما هي عليه. إنها العِمارة الوهم. والنوستالجيا العلميّة ليست ما يخلو من العناصر الشعورية، بل هي تشريح الذاكرة. يختلطُ الأمر هنا، هل نحافظ على التراث المعماري أم نحافظ على روحه؟
هي النوستالجيا إلى روحِ المكان لا المكان. وروحُ المكان، هي ما نستطيع أن نبني عليه من دون أن نقع في الذاكرة الوهم. تبدو روح المكان مرتبطة بالمكان نفسه، إلّا أنها في الكثير من الأحيان، تكون مرتبطةً بالنسيج الاجتماعي المرافق لهذا المكان. عندها، ومن منظورِ إعادة إحياء التراث جمالياً، نفشل في إعادة إحياء المكان ونقع في فخّ الرومانسية.
تحثّنا النوستالجيا الكاذبة في معظم الأوقات على أن نحنَّ لصورةِ الشيء، لا للشيءِ نفسه. وهي تعيد إنتاج نفسها، كأنها نوستالجيا متراكمة. تتنقَّل النوستالجيا المتراكمة من أحد إلى آخر، مرتكزةً إلى مشهد واحد، وإلى نقطةٍ جامدةٍ في ذاكرة حواسّنا. نرى البيوت والشجر والطريق في صورة. نراها ثابتة تنظر إلينا وتنتظر. تسرحُ المخيّلة. هسيسٌ في كعب الجمجمة. نسمع العصافير تتخاطب من على الشجر، ونرى المارَّة بين البيوت، نراهم يتخالطون. حركيّة الذاكرة الوهم. نحرّك الأشياء كما يحلو لنا، ونحِنُّ لما كانت عليه من دون أن تكون يوماً.
يبدأُ تحطيم النوستالجيا من فهمِ لعبتها علينا. وتنتهي عمليَّة التحطيم من خلال التشاعر. ترتبط العِمارات بعضُها بالبعضِ الآخرِ، كما نرتبط نحن مع البيوتِ والأحياءِ والمدن. هو التشاعر. كيفيَّة تقمُّص روحِ المباني لفهمِ الحنين الواعي، لا الحنين الوهمُ. التشاعرُ يقتضي أيضاً، معرفتنا بعدم قدرتنا على بناء ما هو قديم، ناسفةً عامل الفارقِ الزمني.
كيف لنا أن نبني عِمارة قديمة؟ يقتضي أيضاً رفضُنا للانسياب مع موجة الحنين الزائفة، والتي تَبني نماذجَ موجودةً، من دون أدنى إدراكٍ لماهيتها وأهميتها التاريخية في محيطها. للعمارات حق في التبدّل والتغاير والتآلف مع كل ما هو متحوّل.
ماذا تريد العِمارات أن تسرد لنا؟ نوستالجيا الإصغاء والخروجِ من الأنا، يولّد أولى خطوات التشاعر. أحياناً، تودّ العِماراتُ لو تلبس فستاناً جديداً، فتصير نجمة ساطعة وسط المدينة. أحياناً، تودّ العِمارات لو تظلّ تحوي وظائفها المعتادة، كأن تظلّ المدرسةُ مدرسةً، أو كأن يظلّ البيتُ بيتاً. أحياناً، ترغب العمارات في التوسّع، تنبت لها جذوعٌ جديدة، ومديدة. فنقف نحن هنا ولا نصغي. نتآكل في الذاكرة ونتآكل في المخيّلة ونغرق فينا. أصنام في الرؤوس نعبدها ونأبى أن نحطّمها. تحطيمُ الأصنامِ يتطلَّب تحطيم الخوف، خوف الآنيَّة المتفلّتة من أي مألوف. هو الفراغ، والنقطة الخالية التي تعيدنا إلى لحظات الخلق الأولى. كم كان جميلاً لو بنى المعمارُ الأول مسكنَهُ من دون الرجوع إلى الماضي. لو حطّم قيود مخيّلته، وتركها تلعبُ على الألواح الفارغةِ كما تشاء. بعيدةٌ هذه الغيمةُ وناطحةٌ هذه السماء، لِمَ العيونُ مسمَّرة على الشارعِ الضيِّق، وعلى الصور الرماديَّة، وعلى المباني البالية، وعلى «العصور الذهبية» المتكررة تاريخاً بعد تاريخ.
لِمَ العيونُ مسمّرة إلى الداخل، ولم الأحداق مائلة إلى الرأس.

النوستالجيا الموجعة
أذكرُ رجلاً فقد عقله. أذكرُه، نادى لحب ضاع منه، وامرأة كانت تنتظره كل يومٍ في مقهى «الويمبي» في شارع الحمرا.
أذكره نادى طيلة عشرين عاماً.
أذكره لفظ اسمها على فراش الموت.
لكن المرأة هذه لم تجلس يوماً في مقهى «الويمبي».
لكن المرأة هذه لم تكن يوماً حقيقة.

* نُشر في مجلة «رحلة» الشهرية ضمن ملف خاص عن النوستالجيا
rehlamag.com