يقول بوكاس في رواية «كتاب الضحك والنسيان» لميلان كونديرا (ترجمة محمد التهامي العماري، المركز الثقافي العربي، المغرب ــ 2015): «الرجال ينقسمون منذ الأزل إلى فئتين كبيرتين: محبّو النساء أو الشعراء، ثم كارهو النساء أو المصابون بالرهاب من النساء. فمحبو النساء يقدسون القيم الأنثوية التقليدية مثل العاطفة والأسرة والأمومة والخصوبة، وومضات الجنون المقدسة، وصوت الطبيعة الإلهي الكامن فينا، في حين تُشعرُ هذه القيم كارهي النساء أو المرهوبين منهن برهاب خفيف، في حين يعطي كاره النساء الأولوية للمرأة على الأنوثة». على الرغم مما يثيره تصنيف بوكاس من طرافٍة تدعو إلى التأمّل والتفكير في ما يخص ثنائية الرجل والمرأة، إلّا أن ما استوقفني في قوله أمران مهمان: الأول منهما مرتبط بالعلاقة بين الشخصية الروائية ومبدعها. مهما حاول الأخير أن يخفي أفكاره ويحجبها بذريعة أن للشخصية الروائية عالماً مستقلاً يجعل فعلها خاصاً بها ومرتبطاً بالحدث الذي تعيشه، وقولها معبراً عما تؤمن به.... مع ذلك، أعتقد أن شخصية بوكاس تحمل رؤية الروائي الذي حرص في معظم رواياته على تضمينها فكرة الرهاب من النساء حتى غدت ثيمًة بارزًة فيها. ففي رواية «فالس الوداع» (ترجمة روز مخلوف، دار ورد، سوريا ـ 2005) يقدّم الروائي شخصية روزينا بوصفها امرأة انتهازية تستغل علاقتها بكليما لتجبره على الخضوع لإرادتها. وفي رواية «كائن لا تحتمل خفته» (ترجمة ماري طوق، المركز الثقافي العربي، المغرب ـــ 1998)، يشبّه كونديرا عالم الأم بعالم «الفحش حيث الشباب والجمال لا يساويان شيئاً». ولذلك، تهرب تيريزا من عالم أمها. وفي رواية «الخلود» (ترجمة محمد التهامي العماري، المركز الثقافي العربي، المغرب ــ 2014)، تسخر شخصية بول من المرأة، في قوله: «من حسن حظ الإنسانية أن حروبها الكبرى خاضها الرجال. لو كانت النساء هن من خُضنها لكانت أكثر وحشية، ولقطعت دابر البشر».وكثيرة هي الأمثلة التي تؤكد ثيمة الرهاب من النساء، وتدلّ على بغض المرأة وكراهيتها في سرديات الروائي التشيكي ميلان كونديرا، وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد أن شخصية بوكاس تعبّر عن رؤية الروائي نفسه.
أما الأمر الثاني فهو السخرية من الشعراء، عندما صنّفهم بوكاس ضمن الفئة المُحبِّة للنساء. سخرية يؤكدها بقوله: «يا معشر الشعراء إنّ ما ترونه فوق رؤوسكم ليس سماء، بل هو تنورة والدتكم الوارفة». ويرى بوكاس أن الشعراء ليسوا أفضل الرجال، لأنهم يندرجون ضمن فئة محبي النساء، وخصوصاً أنه يعتقد أن كارهي النساء هم أفضل الرجال، ومما يؤكد ذلك قوله: «إن المرأة الشاعرة هي امرأة مرتين، وهذا كثير على رجل يكره النساء مثلي». وهنا يبرز سؤالان: لِمَ يركّز ميلان كونديرا في رواياته على إبراز خطاب الكراهية للمرأة؟ ولِمَ يأخذ على الشعراء حبهم لها؟
لا يُخفى على المهتمين بأدب ميلان كونديرا أن عالمه الروائي تبرز فيه النزعة العدمية، فهو يرفض الوجود الإنساني، ويجسد الكثير من المقولات العدمية مثل الشك في القيم الإنسانيّة والمبادئ الأخلاقية، ويسخر من براءة الأطفال، ويرى أن مرحلة الشباب تسودها الغنائية، فضلاً عن عرضه قضايا فكرية تشي بتأثره بفلسفتي شوبنهاور (1788ـــــ 1860) الذي يرى أن النساء «خُلقن من أجل استمرارية الجنس البشري»، ونيتشه (1844_1900) الذي يطلب ممن يودُّ مقابلة امرأة أن يحضر معه سوطاً. كلُّ ذلك يبيّن سبب بروز خطاب كراهية المرأة في سرديات الروائي التشيكي الأصل والفرنسي الجنسية. أما مأخذه على الشعراء في حبهم للمرأة، فمردّه إلى ضعفهم أمامها، وهذا ما جسده في رواية «الحياة في مكان آخر» (ترجمة محمد التهامي العماري، المركز الثقافي العربي، المغرب ـ 2012) إذ يحكي فيها قصة الشاعر ياروميل ومعاناته مع أمه التي تقف عائقاً أمام طموحاته. وهذا ما يدفعه إلى محاولة التمرد عليها، لكنه يفشل في ذلك بسبب إحساسه بالذنب تجاهها. يقول الراوي معلقاً على محاولات تمرد الشاعر ياروميل: «لن تتخلص أبداً من هذا الإحساس: أنت مذنب، مذنب! ففي كل مرة تخرج فيها من بيتك، تشعر بنظرة مؤنّبة من خلفك تصيح بك أن تعود! ستجوب العالم مثل كلب مقيّد بحبل طويل». ولعل في ذلك ما يبيّن ضعف الشعراء أمام أمهاتهم، وهذا ما يؤكده الروائي في «كتاب الضحك والنسيان»، مُبيّناً من خلال شخصية بوكاس أن الشعراء «لن ينجحوا في تخطي ظلال أمهاتهم، ويخضعون لأي امرأة لأنهم يرون فيها صورة الأم». وعلى هذا الأساس، يستند كونديرا في موقفه من الشعراء إلى ضعفهم أمام النساء.
تأثّر بفلسفتَي شوبنهاور ونيتشه المعاديتين للنساء


وختاماً، قد يختلف النقاد والباحثون حول إشكالية موقف ميلان كونديرا من المرأة والشاعر، بيد أنهم متّفقون على أنه روائي تبوّأ مكانة رفيعة في الأدب العالمي، كما أنهم لا يختلفون على القيمة الجمالية والأدبية لعالمه الروائي، وهذا ما أكدته نانسي هيوستن في كتابها «أساتذة اليأس ــــ النزعة العدمية في الأدب الأوروبي» (ترجمة وليد السويركي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ــــ 2012). إذ لم يمنعها نقدها اللاذع وسخريتها من نزعته العدمية من الاعتراف بكونه واحداً «من الكتّاب الأحياء الأكثر تقديراً في العالم بأسره، وأحد الكتّاب النادرين الذين ينعقد إجماعٌ على تفوقهم، هذا على الرغم من الازدراء الذي يبديه تجاه الجموع. إنه يغوي، يعجب، يحفّزُ، ويقنع حتى هذه الجموع نفسها، ويحظى بتأييد غالبيتها العظمى».

* باحث في الأدب العالمي