يتألّف معجم الفنان تيمو ناصري (1972) من أشكال وخطوط مفكّكة ومجرّدة ومنحوتات تتشارك سمة أساسية هي لا نهائيتها، نزولاً عند المنطق الرياضي واحتمالاته الكثيرة التي يتبعها الفنان في عمله النحتي. استعادت غاليري «صفير زملر» (بيروت ــ هامبورغ) مشروعه «أبجديّة كونيّة» على موقعها الإلكتروني أخيراً، من خلال فيديو جديد، ما يدفعنا للتوقّف عند تجربة الفنان الإيراني الألماني. المشروع يتألّف من منحوتات ولوحات ملوّنة بالحجم الكبير وأخرى تشكّل ما يشبه أحرفاً أبجديّة بحجم أصغر، وتعاويذ معاصرة تختزن قلق الإنسان منذ وجوده. الفنان المقيم في برلين، انتقل من التصوير الفوتوغرافي، إلى ممارسة أكثر تعقيداً في النحت والرسم، تخضع إلى اشتغال مفاهيمي، بينما تبقى مفتوحة على مراجع وأطر بصريّة ووسائط متشعّبة. نستعرض هنا أعمال «أبجديّة كونيّة» التي تختصر مساحة واسعة من مسار ناصري في النحت، وبحثه في اللغة والأشكال والرياضيات، والمفاهيم التي تقبع خلفها. تنطلق فكرة المعرض من سرديات في التواريخ الفنية والطبيعية والبشريّة، مثلما فعل في مشروعه الكبير «كلّ الأحرف في كل النجوم» حول الخطاط العباسي ابن مقلة، وحكاية بحثه عن الحروف الأربعة المفقودة من اللغة العربية.
من مشروع «أبجديّة كونيّة» لتيمو ناصري

الاشتغال المفاهيمي سابق على الممارسة النحتيّة لدى ناصري. إنها قراءة ومساءلة متواصلة للمفردات البصريّة التاريخية وأصلها، أكثر مما هي تجسيد لمشاعر الفنان. ما يظهر أمامنا كأشكال مجرّدة، ولوحات هندسيّة تقوم على تكرارات لونيّة وخطوطيّة، هي مجرّد نتيجة لواحدة من الاحتمالات الكثيرة في مسار عمله.
في «أبجديّة كونيّة»، تتعدّد الطبقات الجمالية والتأريخية في هذه الأعمال، بين الحكايات الفنية والعسكرية والطبيعية والإنثروبولوجية والتاريخ الاستعماري. البداية كانت مع صور لبارجات عسكرية من الحرب العالمية الأولى، عثر عليها ناصري على الإنترنت. لم تكن البارجات كغيرها من الآليات البحريّة المعتادة، بل رُسمت على هيكلها الخارجي خطوط وأشكال مجرّدة، كانت لها وظيفة التمويه، ومنع جيوش الأعداء من رؤية اتجاه السفينة، إذ يصعب من خلالها التمييز ما إذا كانت تقترب أو تبتعد. هذه التقنية الـتي تسمّى Razzle-Dazzle، تتمثّل في خطوط ملوّنة وفاقعة استخدمها الجيشان البريطاني والأميركي لمواجهة الألمان.
من هذه الصور، ينتقل الفنان للبحث عن أصل هذا التمويه، وأنماطه الفنية والطبيعية. تتكشّف تدريجاً السرديات المعقّدة التي تحيط بها، ما يحيلنا بطريقة أو بأخرى إلى السبل المتعدّدة، والمتضاربة أحياناً لكتابة تاريخ ما، والتاريخ الفني خصوصاً. من فرضيّة إلى أخرى ينتقل ناصري، من دون أن يتفادى أسئلة كثيرة: كيف يمكن الوصول إلى لغة كونيّة؟ وما هي مفرداتها وأشكالها؟ وكيف يكتب التاريخ؟ لا يتبنّى الفنان أيّاً من الإجابات التي يتعثّر بها، بل يجري اقتراحات بصريّة مجرّدة تحوي كلّ هذه الطبقات، ضمن اشتغال نحتي دقيق وجبار أدّى إلى ولادة أبجديّته الفنية المستوحاة من تقنية الـRazzle Dazzle. لكن هذه التقنية في التمويه لا تقف عند تجسيدها الشكلاني والخارجي. إذ تتلاقى مع أساليب فنية عدّة مثل التجريبية والتكعيبية، فيما ارتبطت بأكثر من اسم. نسبت بداية إلى الفنان البريطاني نورمان ويلكينسون، وإلى عالم الحيوانات البريطاني جون غراهام كير الذي تشير الأبحاث إلى أنه كان أوّل من اكتشف هذه التمويهات، واستلهمها من أساليب بعض الحيوانات والحشرات الدفاعية لحماية نفسها في الطبيعة.


لكن حقوق كير ضاعت أمام ويلكينسون، رغم أن الخلاف بينهما استمرّ إلى ما بعد سنوات الحرب. أما الحكاية الثالثة فتشير إلى الفنان الإسباني بابلو بيكاسو، الذي يُحكى أنه ما إن رأى هذه البوارج من مرفأ مارسيليا، صرخ «لقد سرقوا فني». لكن ألم يُتّهم بابلو بيكاسو بسرقة أعمال فنانين آخرين، وتأثّره بالفنون القبلية والشعوب الأخرى مثل الأقنعة الأفريقيّة؟ هذا التشعّب قاد ناصري إلى البحث في الفن الأفريقي ليكتشف فيه بعداً هندسيّاً في الرسومات التي اتبعتها بعض شعوب وقبائل القارّة السمراء لتمويه أجسادها ووجوهها. الأنماط نفسها وجدها الفنان في أقنعة الشعوب القديمة مثل أقنعة كابوكي اليابانية وفي إندونيسيا والفنون التقليدية لدى شعوب أميركا الأصليّة. وفي حين تعدّد استخدام هذه الأنماط والأشكال لدى الشعوب القديمة كطلاسم وتعويذات للحظ والحماية، فإن الاستعمار الأوروبي بدّد هذه التقاليد بتعاليمه الدينية التي فرضها بالعنف في أفريقيا والقارّة الأميركيّة تحديداً، ما أدى لاحقاً إلى خسارة هذه الشعوب طقوسها وممارساتها. بين النظام القبلي والسحر والحروب البشرية اللاحقة والاستعمار، تراوح العمل النحتي لأبجديّة تيمو ناصري الكونيّة. هكذا قام بتجريد أنماط السفن الأولى ونقلها إلى لوحات بأحجام كبيرة، لتنتج منها أشكال بملامح كائنات مختلفة.
في لوحات ناصري تضيع سمات أشكاله بين الحشرات، والطواطم القبلية، والسفن الحربيّة. شياطين وآلهة كثيرة تسكن هذه المنحوتات المعاصرة التي اقتصّ منها ناصري نصباً كبيرة تستعيد شكل الطواطم الأولى للقبائل. كذلك، قام الفنان بتشريح هذه الأنماط الهندسية المعقّدة، وفكّكها إلى العناصر الأولى التي يتشكّل منها الرسم الشامل.
هكذا وصل إلى أكثر من 700 شكل مجرّد أعاد تأليفها ونحتها من المعدن، مقترحاً إياها كأبجديّة كونية غامضة، تصلح لكلّ العصور وترافق هواجس الإنسان في محطات كثيرة من تاريخ التطوّر البشري. ربّما هذا أكثر ما نحتاج له في الأوقات القلقة التي يواجهها العالم الآن.

موقع صفير زملر غاليري


ابن مقلة: كلّ الحروف في كلّ النجوم


ليس «أبجدية كونية» هو العمل الأول الذي يشتغل فيه تيمو ناصري على الحروفيّة وكيفية كتابتها. رغم أنه لا يعرف قراءة العربية، إلا أنه خصّص مشروعاً طويلاً (توّج بمعرضه «كلّ الحروف في كلّ النجوم» (2017)) لتجربة الخطّاط العباسي ابن مقلة (885 ــ 940 م). ينطلق ناصري من قصّة ابن مقلة ومحاولته إضافة أربعة حروف جديدة إلى اللغة العربية، قبل اتهامه بتدنيس لغة القرآن ويعاقب بقطع يده اليمنى ولسانه ويُترك ليموت في السجن. هكذا انتهى مصير الرجل، وهكذا اختفت أيضاً رسائله الأربع التي يقترح فيه إضافات إلى اللغة العربية لكي تكون ترجمة وتعويضاً عن الأصوات التي تُلفظ ولا تُكتب. مستعيناً بفهم ابن مقلة الواسع للخط بوصفه أداة لرسم حدود الفضاء، حاول ناصري إيجاد أشكال الحروف الأربعة التي لم يكتب لابن مقلة إكمالها. خصّص مشروعه بأكمله لحلّ ذلك اللغز، إذ لجأ إلى برنامج رقمي لتحديد موقع النجوم في السماء خلال سنة 934 م أي خلال فترة حياة ابن مقلة. بالاستناد إلى مواقع النجوم، اتبع ناصري قواعد ابن مقلة الهندسية في الخطّ العربي، وأجرى عمليات رياضية أفضت في النهاية إلى أربعة حروف جديدة. النتيجة البصرية كانت منحوتات مصنوعة من الخشب والفولاذ تحيط بها دوائر كتجسيد لآلة الإسطرلاب الفلكية لدى العرب، بالإضافة إلى النقاط الخمس التي كان يستخدمها ابن مقلة كوسيلة لقياس طول الأحرف العربيّة. بالطبع لم يتوصّل إلى النتيجة التي كان ليتوصّل إليها ابن مقلة لو سُمح له البقاء على قيد الحياة. لكن مساهمة ناصري هي مجرّد اقتراحات جمالية تنطلق من أسئلة أساسية عن أصل الحروف وأشكالها وكيفية ابتكارها. كما أنها تذكّر بالقواعد الجمالية والحسابية المعقّدة التي يكتنزها الخط العربي متمثّلاً بواحدة من أعظم تجاربه وفق ابن مقلة. في اشتغاله النحتي الذي يشبه رحلة حلّ الألغاز الجمالية الغامضة في التاريخ، لطالما استعان ناصري بالمرجعيات الإسلامية، وأنماطها الهندسية وخصوصاً زخارف العمارة والمساجد الفارسية.