تونس | إن جمال الدول وتقدمها، لا يقاس بما لديها من مبان ضخمة أو بما تملك من المركبات التجارية ومظاهر البهرجة والتأنق الخاوي، وانما يقاس بما تنجبه من فنانين وآثار فنية تخلد اسمها عبر الزمن كالتماثيل والنصب التذكارية الشهيرة والفن المعماري. كأن نذكر مثلاً مركز «البومبيدو» الذي صممه المهندسان رينزو بيانو وريتشارد روجرز، أو تمثال الحرية أو برج ايفل أو فنانين غيروا مسار تاريخ الفن على غرار بيكاسو ولوحته «آنسات أفينيون» (1907) التي كانت ملهمة المدرسة التكعيبية برمتها. ثم إنّ للإبداعات وقعاً خاصاً وقت الأزمات. لذلك يبدو أن «حديث الضوء» كان عملاً فنياً يصب في صميم ما ذكرنا. «حديث الضوء» عمل ثلاثي نحتته الفنانة التونسية زكية الحديجي، ترافق مع صور فوتوغرافية من إنجاز الفنان الفوتوغرافي كريم كمون. وكان للشعر حضور أيضاً من خلال قصائد ديوان «فتحة ضوء» للشاعرة ريم الرقيق، فأفرز هذا التمازج «حديث الضوء».

بغية وضع المنحوتة في الزمان والمكان الفنيين، تقول زكية الحديجي إنها حاولت محاكاة الزمن في صيرورته وديمومته المسترسلة عن طريق استخدام الجص السائل الذي يوضع طبقة تلو الأخرى حتى تكتمل المنحوتة اكتمالاً يشكل الفكرة ويبني معنى مصارعة الزمن. لذا، حاولت التحرر من قوانين المادة الصلبة حتى جعلت الجص شفافاً يتنفس العالم الخارجي ويعكس الضوء إليه. كثيراً ما يستفز التفاعل مع النحت في تشكيل جوانب عديدة، أبرزها الفراغ والكتلة والتحكم في التعبير عن المفهوم. لذلك فقد انصبت فلسفة العمل على تعرية الدواخل السحيقة ومحاولة إضاءتها من الداخل لتحمل احدى المنحوتات بداخلها شمعة.
وكان هذا الاختيار نابعاً من أن النحت ثلاثي الأبعاد، فهو يجمع بين الاحجام وفراغاتها. وعلى عكس الرسم الذي يخرج ضوءاً جاهزاً ويترك لأعيننا فقط مهمة استقباله، فإن النحت كان يعتبر سلبياً تماماً أمام الضوء، تستطيع أنى وقفت استنطاق ظله.
على الحياد مع الضوء، تقف المنحوتة أمامك شبه عارية، ولعلها عارية تماماً في الفضاء، أو لعل ذلك ما كان سائداً قبل أن يهدي الفنان انتونيو كانوها منحوتته الشهيرة «ميدوسا» الى الكونتيسة الروسية فالاريا تارنوفاسكا، ناصحاً اياها بأن تضع شمعة في الفجوة المحجوزة داخل رأس المنحوتة، ليثبت لنا بأن المنحوتة أيضاً يمكن أن تجبرنا على الوقوف اينما شاءت. وهنا يمكن الاقرار بأن معرض الفنانة التشكيلية جاء متسقاً مع القلق القديم للنحات، قلق الضوء، فأجبرت الفراغات على الامتلاء به واعتمدت على كيفية صياغة تصورات الفكرة من ناحية ومواءمتها مع الثوابت الفنية التي تشتغل عليها، فالفراغ والضوء كانا محركي الكتلة.


وفق هذه العناصر، قامت بتشكيل المنحوت خدمةً للمعنى الذي رامت الفنانة تحقيقه، فأمعنت في تحريك المتلقي بنحتها للظل ايضاً، كأنها تستحضر قول الفنان التشكيلي اوغست رودان عندما زار «كاتدرائية مانس»: «لقد نحت القوطيون الظلال، مثلما نحت اليونان الضوء».
ثم يبدو أن اختيار التجريد دون سواه، ينبع من رغبة الفنانة في الهرب من قيود الاساليب الفنية والتأسيس لقيم متفردة، ففتح «حديث الضوء» هنا امكانيات للتعبير عن الانفعالات العميقة التي تجتاح نفس الفنان والانسان عامة ليتملص من نواميس بعينها ويحافظ على ثنائية النقاء: البياض (الجص) والضوء.
وقد كتب فاسيلي كاندنسكي الذي يعتبر من أوائل مؤسسي الحركة التجريدية ومن أبرز روادها، في مذكراته عن التجريد «إن كل ما يحدث ما هو الا رمز وما يشاهد ليس الا عبارة عن نسب وامكانيات لأنّ الحقيقة الاصلية للأشياء تبقى من حيث المبدأ غير مرئية».

المزاوجة بين النحت والشعر والتصوير
يعد الضوء من أهم عوامل تحقيق الغايات الفنية، إذ يمكّن الفنان من ابراز الموضوع الرئيسي لعمله. لذلك، تستمد بعض الفنون تعريفاتها المفهومية من معطى الضوء على غرار التصوير الفوتوغرافي، وهو فن الرسم بالضوء. وقد لبّى الفنان الفوتوغرافي كريم كمون نداء الضوء، هو الذي بأنه منذ اكتشف آلة التصوير الفوتوغرافي، ارتوى عطشه وشغفه بالضوء. هذا ما تترجمه كل صورة تقريباً، حيث كان الضوء عنصراً أساسياً تحوم في فلكه فكرة الصورة المجردة. هكذا، كان المتلقي امام أسئلة ومحاولات فهم صورة تكون عادة واضحة الملامح أكثر من اللوحات الزيتية. غير أن فن التصوير الفوتوغرافي يتجاوز حمل آلة تصوير فوتوغرافي والتصوير كيفما اتفق. لذلك فقد أضفت صور الفنان جماليةً على «حديث الضوء»، وعكست الأبعاد الثلاثية للمنحوتات ظلها على عمل ثنائي الأبعاد من ناحية ويحمل ضوءه داخله.
«لا ﺍﻧﺴﺎﻕ ﻟﻤﺎ ﺍﺧﺘﺎﺭﻩ ﻟﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻈﻠﻤﺔ، ﺃﻧﺎ ﻣﻦ ﺿﻮء ﻭﺇﻟﻴﻪ ﺃﻋﻮﺩ ﻭﻳﺒﻘﻰ ﻟﻲ ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭ» كانت كلمات للشاعرة ريم الرقيق من قصيدة «فتحة ضوء» التي حمل الديوان اسمها.
تقول صاحبته إنه كان محاولة لاقتسام الضوء مع من عايشها فترة المخاض بهذا المولود، وأنه كان فتحة ضوء لمن يبغي خلاصاً من عتمته. وبالعودة إلى ديوانها «فتحة ضوء»، نجد كلمات على غرار النجوم والنور وكل مرادفات انبعاث الضوء مبعثرة بين طيات القصائد.
لعل الاغراق في التجريد يترك للخيال فرصة بحث عن كل ما هو مطلق وعام، ويفتح السبل نحو اتساقه بأجناس فنية أخرى على غرار الشعر والتصوير الفوتوغرافي، وربما الموسيقى أيضاً لما تمنحنا إياه من رؤية مختلفة للزمان والمكان وحتى التاريخ ككل، كما تمنحنا فرصة تجاوز محدودية الذات. لكن تسليط الضوء على المتلقي واستخدام التجريد نفسه، قد يوقعان العمل الفني في مغبة الغموض والضياع والبوهيمية.