منذ عدة سنوات، أزاح يوسي ميلمان الصحافي «الإسرائيلي» المعروف الستارَ عن وزارة الشؤون الاستراتبجية في الدولة العبرية، في مقال هام نشرته صحيفة «ميدل ايست أي» البريطانية. من أدق وأصعب المجالات الموكلة للوزارة المذكورة هي صناعة الرأي العام، لدعم الرواية الصهيونية ومواجهة منظمات «بي. دي. إس» وشنّ حرب فكرية شاملة لطردها من الفضاء الافتراضي الذي يبدأ من عالم الإنترنت إلى عالم العلاقات العامة. والترميز ذو الدلالة على هذه القوة الناعمة في الصراع المركّب يُطلق عليه في القاموس الإسرائيلي «هاسبرا»، التي تعني التفسير أو المعلومات.ليس الأمر مدعاة لإثارة السوداوية الثقافية، بل توصيف لرصد عناصر وتفاصيل وعمق الصراع ومنهجية المواجهة الذكية والكفوءة في إدارة الصراع ودور النخّب، وخاصة القضايا الاستراتيجية والبعيدة المدى، والتي من الأهمية بحيث أنشئت لها وزارة خاصة بالشؤون الاستراتيجية، وتُرصد لها ميزانية تقترب من 50 مليون دولار، يعمل فيها آنذاك 25 موظفاً، أغلبهم ضباط سابقون في المخابرات الإسرائيلية وكتاب أعمدة الرأي في صحف مرموقة، وهي الآن منهمكة بالتجنيد وتعظيم وتوسيع دورها.

لا يكفي أن يكون لكلّ مثقف مشروعه!
المعركة تحتدم وتدعو إلى المقاربة بين طرفي الصراع، ليست مع مكانة المثقف الفلسطيني وإنجازاته العلمية عربياً ودولياً، ولا تعداد تضحياته ونتاجاته في كثير من مجالات الإبداع. لكن لا بدّ من معيار لاستعادة جسد الثقافة الفلسطينية الذي أصيب بالترهل والقوقعة والتشظّي والتمزق. في سنين الخراب الخانقة، التي أحاطت بكل أشكال الإبداع، أذكر المقولة الثورية أنّه «لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية»، والإضافة الذكية التي قدمها أحد المفكرين «وبدون عبقرية ثورية» في حالتنا يريد التأكيد على «الذكاء الثوري». ونكررها ونحن نعترف بأنّ لوثة ما أصابت جسد الثقافة الفلسطينية، في تغييب وظيفته التنويرية التثويرية الإنسانية، وإقالته من صناعة القرار والدور القيادي، وتحويله كآلة ترويج للعصبيات الفئوية والتنظيمية والعقائدية المغلقة. وبين المثقَّف الساكن، ومثقف متمرد مناضل عضوي مشتبك ويقاوم.

سرى حداد ــ 2019

وزمن أوسلو ترك أثراً في تشويه هذا الجسد. كما أسهم سيف الجغرافيا السياسية في إخضاعه لشروط موضوعية قسرية، جعلت التواصل بين أطراف الجسد الثقافي والتفاهم بين مكوناته أمراً صعباً، وزاد الفشل السياسي من الصعوبات مزيداً من التجزئة الجغرافية الداخلية.
استراتيجية إعاقة كلّية، أعاقت قيام استراتيجية بديلة على المستويات كافة، وأهمها في الحرب الناعمة ومنها استراتيجية ثقافية، أدى غيابها إلى وجود معاقين ثقافياً. مواضيع تثير في الأذهان مقداراً كبيراً من الأسئلة وسط ضياع له الكثير من التداعيات والإرباكات وتلاعب في المعلومات والمشاعر والقيم والرموز. مع ضمور متدرج لروح الاستمرارية في مجمل قوة النُخبة الفلسطينية، ظلّ تحدي البقاء يدفع بالبعض للمطالبة بمشروع لمحو الأمية الثقافية ومواجهة الثقافة المعاقة تحت مسمى جبهة ثقافة فلسطينية موحّدة.
تفترضها الضرورة لمواجهة التحديات الجديدة وحماية «الوطنية» الفلسطينية، ومنها التحديات الموضوعية، كاتّساع الهوة بين فلسطينيي الشتات والمقيمين على أرض الوطن. نحتاج إلى برنامج إعادة تأهيل. نجاح هذا المشروع يقترن ببقاء الشعب الفلسطيني شعباً واحداً له هوية وثقافة موحدة.

وزارة للشؤون التكتيكية أم الاستراتيجية!؟
فشلت السياسة في حلّ أزمة النظام السياسي من سلطة ومنظمة ومنظومة ومنظمات، وتأرجحت في دائرة وزارة للشؤون التكتيكية، الغائرة في أوحال الواقع، وغابت الرؤية البعيدة في فضاء الحلم، وظلّت رهينة لأوهام الفكر اليومي، فعن أيّ وزارة للشؤون الاستراتيجية نتحدث؟! لكن ذلك يجب أن لا يكون تبريراً لأهل الإبداع، فحين يتوقّفون عن الإضافة والتفكير والتمرّد، فإن الوطن يفقد صوته وحسّه ونبضه واسمه وبصره وبصيرته. وحين يسقط سلاح المبدع، يخسر الوطن المعركة قبل أن تبدأ. فكلّ الذين شبّوا على طوق الأنظمة النمطية والأحزاب الحديدية أو الأيديولوجيا السلطوية المقفلة، كان قبل كلّ ذلك الانتماء الأقوى للثقافة الوطنية.

ثقافة الأخ الأكبر يراقبك
الديكتاتور أو الجاسوس يمكن أن يكون مثقفاً وليس بالضرورة سياسياً، كما وصفهم جورج أورويل في رواية 1984. يشغلون مهنة «شرطة الفكر» وثقافة الأخ الأكبر الذي يراقب باقي الأخوة أو الذي يحمل مهمة وضعك خارج النص، وإشغال المجال الثقافي في صراع خارج النقاش. ويتحول المثقف إلى متمترس، يدافع عن مساحة خاصة فيه، من أجلها قد يصبح تابعاً وناقلاً، ويستقيل حتى من دوره الناقد. لذلك وجدنا البطل في رواية أورويل يقول: يسقط الآخر الأكبر، كالذي يحاكم مثقفاً يطالب بوقف التطبيع مع دولة الاستيطان! دعوة لسقوط الرقيب هي دعوة لتحرر الإنسان والوطن، ولا يتم ذلك بصفة فعلية إلّا عبر تحرّر مواطنيه من الخوف والزيف والنفاق والخواء الروحي. أي أنّه لا يمكن أبداً طرح قضية حرية الوطن بشعب من العبيد! حال المثقَّف الفلسطيني في معمعة الأسئلة القلقة: أين أصبحنا وإلى أين نتجه؟ نحن ندرك أن واقع حالنا وبلداننا والعالم على خارطة الجحيم.
مهما يكن، لا تستطيع الهاسبرا قلب الصورة، تستعيد استخدام فزاعة «اللّاساميّة» ذاتها وتجديد اتّهام بــ «كره من هم يهود أو من أصول يهوديّة»، ولصقها بكل موقف أخلاقي يرفض الظلم، وتضع كل معارضة للسياسات العنصرية الصهيونية في خانة المواقف المعادية لوجود «إسرائيل»، وبالتالي هي في خانة معاداة السّاميّة ويكون لنا منطق الاستجابة!

الصهيونية أعلى مراحل «الهاسبرا»
الهاسبرا التابعة لوزارة الشؤون الاستراتيجية الصهيونية تتولى الحملة المضادة لمحاولات نزع الشرعية عن إسرائيل، وظيفتها احتلال عقول النُخَب، ولديها خطط للاعتماد على المصادر العلنية والسرية. مقسمة الى ثلاث دوائر، الدائرة الأولى تُعرف باسم دائرة «جمع المعلومات» الاستخباراتية وأدواتها التقنية، والثانية، دائرة «التوعية» أو الاتصال وتنتشر عبر وسائل إلكترونية، ومهمتها التأثير على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي الدولية. والثالثة هي «دائرة العمليات»، والهدف منها تنفيذ الخطط والأفكار. 
نشر مقال ميلمان عام 2016 حيث كشف عن سرّ استخدام القوة الناعمة الصهيونية وبالأسلحة الثقافية وبالأدوات الاستخباراتية والإعلامية والفنون المختلفة والتوثيقية والمسرحية والسينمائية والروائية، على نحو يهدف إلى تبييض سجل المجرم واختراع البطولة وتحويل الجندي الصهيوني القاتل إلى ضحية وبطل أسطوري لا بد منه في الشرق الاستبدادي، وشيطنة الضحية وتشويه وتجريم المقاومة. وتقوم «الهاسبرا» بتدريب أقلام صحافية وشخصيات ثقافية ونقابية وفنية ورياضية وأدبية لتأدية دور في غسل الدماغ البشري للرأي العام، وممارسة شتى الحيل الترويضية واللغة المقنعة والمنطق التبريري الذي تميزت به «الهاسبرا» مثل أن ارتكاب «إسرائيل» لمجازر صبرا وشاتيلا لخّصه الكاتب الأميركي اليهودي بود هوتز قائلاً: «نحن نتعامل مع موجة جديدة من معاداة السامية». استخدمت الدعاية القديمة والجديدة لمواجهة كلّ انتقاد أو إدانة بالتلويح بكراهية اليهود، وهي مجرد طريقة للضغط على الرأي العام والشبيهة بالابتزاز السياسي والإرهاب الفكري ضد الأوروبيين والعرب في أوروبا.
كتب الحكيم جورج حبش محذراً من الخراب الكبير: «الكارثة تحدث عندما تنهار الجبهة الثقافية - النظرية»


وعودٌ على بدء، فإنّ ما يقدّمه كيان العدوّ فكرياً وفق استراتيجية الحرب الناعمة يرمي إلى تشويه الشخصية الفلسطينية وإنكار حقوقها التاريخية وطمس تاريخها في محاولة لفكّ عزلة الكيان؛ بل لفصل التضامن الإنساني مع المقاومة التحررية وعزل المقاومة عن بيئتها العربية والإنسانية، بأدوات حديثة وأقنعة ترفيهية مغرية، تجرف داخلها شبكة معقدة وواسعة. لنأخذ نموذجاً واحداً فقط مثل شبكة نتفليكس Netflix الأميركية التسجيل، والصهيونية السيطرة، حيث يظهر فيها الدور الخفي للهاسبرا، لأنها ليست خدمة عادية؛ وهي فعلياً الآن تعمل كخدمة بثٍّ إعلاميةٍ متكاملةٍ، وتقدم مئات من العناوين التلفزيونية التي تعرض على شاشتك عبر تحميل التطبيق الخاص بها. تجد نفسك أمام العديد من البرامج التلفزيونية والأفلام السينمائية، فضلاً عن البرامج التي تنتجها نتفليكس نفسها، ومنها مسلسل فوضى «الإسرائيلي» الذي يحقّر الفلسطيني كشخصية فاشلة وعاجزة وهزلية، وهذا شكل حديث من إعادة السيطرة على العقول، من خلال برامج وتطبيقات هاتفية ولكنها تبثّ أيضاً على أجهزة التلفاز الذكية.
لا يكفي التفوق في قوة السرد الفلسطيني، وفي امتلاك الذاكرة وروح المكان وعين الحقيقة والرواية الأصلية. بل يتم استثمارها كطاقة ثقافية في اشتباك مجتمعي مفتوح، على الأقل إدراك نقطة ضعف الجلاد، الذي مهما ادّعى العفاف، لكنه مدانٌ بشرعية وأخلاقية وجوده، واحتلاله وما اقترف من عبث وجرائم، لا يمكن للتاريخ محوها، وتماماً كما يقول الكاتب الأميركي جون شتاينبك؛ إن الرجل الذي يقتل نفساً لا بدّ من أن يتدمّر داخلياً إلى الأبد.. فكيف لضباط استخبارات سابقين أيديهم ملوثة بدم الحرب، أن يكتبوا الرواية النقيضة، وفي هذه الحالة لن يكونوا مبشّرين بالسلام ومحمّلين بالأوسمة، بل سيخطون قرفاً مثقلاً بالكثير من ذكريات المجازر والسحل والقتل التي لا تغيب عن ذاكرتهم، وملايين المعارك التي تدور في عقلهم ليلاً نهاراً وتدمرهم داخلياً إلى الأبد.

في محو الأمية الثقافية
هل من هاسبرا مضادة؟ هل من استراتيجية ذكاء ثوري في سبيل توعية وطنية، تعمل على إنهاء دور الثقافة المعاقة التي تسعى لإنتاج الفراغ والأمية، بل لفتح كوة في جدار الجبهة الثقافية كي تمرّ الهزيمة، أو كي تمرّر رواية صهيونية ملفقة، وكما كتب محمود درويش: «مَن يكتُب حكايته يَرِث أَرضَ الكلام، ويملُكِ المعنى تماماً». «أنتي - هاسبرا» أو عبقرية ثقافية وثورية، تصون وتحمي وتحفظ حكايتنا، خاصة عندما نقرأ بدقة منهجية تفكير العدو، يصبح وجودها ذا أهمية قصوى. لكن الأهمية تستدعي أولوية البدء بمحو الأمية الثقافية التي خلّفها غياب المشروع الثقافي الفلسطيني. وهو بحجم الحاجة الملحة لثورة جديدة أو استراتيجية جديدة لتأصيل وتحديث الصراع على المفاهيم واللغة والحكاية، لمواجهة الهاسبرا الصهيونية كي نرث أرض الكلام ضد الخديعة الفكرية، التي تتكئ على استخدام اللاسامية بالوسائل التوثيقية الفنية والأدبية والإعلامية والثقافية وليس فقط السياسية، وخاصة التي تكشف العلاقة بين النازية والصهيونية. بل تلك التي أكدت تاريخياً أن نشوء الكيان الصهيوني كان مشروعاً نازياً مهّد له هتلر.

الحرية في قول الحقيقة
لن يكون مثقفاً من يناور الحقيقة، مهما امتلك من قوة الحق، هل يمكن أن يسمي الأشياء بمسمياتها، فتضيق المعايير الثقافية، ويختلط العدو بالصديق، والسلطة والوطن. وأعود إلى أورويل الذي أطلق اسم «وزارة الحب» وجعلها أكثر الوزارات رعباً، ما كان فيها نافذة على الإطلاق. لتقوم بتزوير الحقيقة بقوله: إن تدمير الكلمات أمر جميل، وطبيعي أن تكون نسبة التدمير أكثر بالأفعال والصفات. فالحق لا يستحق بلا الحقيقة، كما أنّ الحقيقة والحرية صنوان لا ينفصلان، فالحرية تعني أن تمتلك كامل الحرية بقول الحقيقة، مثل أن تقول أنّ اثنين واثنين يساويان أربعة وليس خمسة. أن تكون مقاوماً لمن يجبرك على قول الخطأ، مقاومة ضد الكذبة وأن لا تستسلم للخديعة أو تكون صامتاً عنها أو مروجاً لها.

استخدام القوة الصهيونية الناعمة لاختراع البطولة وتحويل الجندي القاتل إلى ضحية وبطل أسطوري

كما يقول فانون: «تنشأ داخل الشعوب المستعمرة عقد دونية تجاه المستعمر، فيحاول أفرادها اعتناق قيم المتروبول الثقافية».
لا يمكن مواجهة الإبادة الثقافية لكيان الهاسبرا وسط حشد من ثقافة دونية محشوة بالأوهام المفرغة، كنماذج لثقافة تمارس احتقارها لذاتها الوطنية والقومية، مثل كاتب يبحث غاية مستزلماً لولي نعمته وآخر مرتهناً للنظام الزبائني، وفنان موسوم بالطابع اللاعقلاني الذي يخرجه عن دوره، يسخر من مثقف مبدئي يمتلك إرادته في ممارسة النقد على أسس عقلانية، وأخلاقية وحتى سياسية، لأنّ أغلبية المثقفين تفضل البقاء في موقع المتفرّج أو في موقع المثقف الدعائي في شركة إعلانية رخيصة. المقاومة الثقافية تنتصر بالحقيقة، فلا حق بدون الحقيقة، ولا حقيقة خارج الوعي، وحتى لا يكون الجواب ملتبساً، وهذا يعود إلى التباس أكبر، يعود بدرجة كبيرة إلى طغيان السياسي على الثقافي، وهو ما ترتب عليه طمس الأسئلة الفكرية.
احتلال الأرض وضمّ الثقافة
قبل أن تنتصر الإعاقة الثقافية الدارجة، وتستمر في تكسير المجتمع بدل تطويره، وتتسابق في معارك ومبارزات وهمية لتجويف المؤسسات والاتحادات والبنى الاجتماعية والتنظيمية، وتقوم بتنظيف القرارات السياسية من أي «لوثة» ثقافية، لترك الفراغ أمام غزو ممنهج لآليات الهاسبرا في عملية الاستيلاب، وتقدم لها خدمة مجانية في ثقافة «الانجزة» والمنظمات الحداثوية التي تمهّد الأرض والمجتمعات ترويضاً وتمويلاً ومن خلال البرمجة الفكرية واللغوية والنفسية، وبالدراسات والأروقة والملفات الدولية والحكومية. المسألة ليست فقط باحتلال الأرض، بل احتلال العقل واستتباع ثقافة ذيلية خانعة، تمكّنت ـــ من خلال الآليات الداخلية السلطوية الخاصة ــ أن تعمل وتتعزز في مختلف التجمعات، كبديل للثقافة التحررية، يقابلها نبض ثقافي وطني بآليات موازية، تتأرجح بين الرسمية والسلطوية ومتمردة وحكومية وغير حكومية مهّدت لفتح الباب أمام آليات خارجية تتربص بها استراتيجيات ممنهجة، تعمل على اختراق الوعي الوطني وتمييع الثقافة وفرض ثقافة التطبيع والهزيمة والاستسلام.

هل من هاسبرا مضادة؟
ربما هو مجدداً سؤال «الذكاء الثوري» كبديل لثقافة المتروبول، وأهميته في صياغة نظرية الواقع لحلّ سوء التفاهم بين عقول مختلفة أو مصالح متضاربة، والأهم بين الأجيال المتعاقبة، تنظم العلاقة بين هويات مركبة، بمجملها باتت تهدّد مكونات الشعب الفلسطيني. مشروع شامل ومتعدد لوعي خصوصية الشتات والوطن معاً بوصفهما حالتين نفسيتين أكثر من كونهما موقعين جغرافيين بشروط مختلفة، لتحوّل الوطن تحت الاحتلال والغيتوات المجزأة والفصل العنصري إلى أقرب لحياة الشتات، والشتات يزداد شتاتاً أيضاً. لذلك يبرز السؤال الثقافي حول حماية وحدة المجتمع الفلسطيني، ببعديه المادي والمعنوي، لنرى كيف أن الأسرة تتجزأ، فينتشر أفراد الأسرة، ليكون الأب في مكان والأبناء في مكان آخر، وكل واحد في دولة مختلفة عن الأخرى، وقد نكون أمام أسرة متعددة الجنسيات، أي أسرة افتراضية تعاني من الجغرافيا، ومن خطر التباعد الثقافي. هذا ربما ينطبق على مجتمعات وعلى سائر مكونات الشعب.
الأهم هو الثقافة الشعبية والتراثية والذاكرة والهوية، وحلّ سوء التفاهم بين الأجيال والعلاقة بين هوية الجماعة والمجتمع المضيف. مهمة أيّ استراتيجية وطنية جديدة، تحدي الربط الاجتماعي واستعادة الرموز البطولية لكفاح الشعب الفلسطيني ومقاومته وقيم البطولة والشهادة ونضال الأسرى ودلالاتها الثقافية والتاريخية في إنتاج بيئة إيجابية لأنعاش الهوية الوطنية.
الكارثة عندما لا نعرف أو نعرف ولا نبالي، بمجريات الواقع ومآل الأحداث، وباستراتيجية الإبادة الصهيونية المستمرة، ونظل نمارس كلّ أشكال الإسقاط النفسي، وندعي كمؤسسات تتعثر بهزيمتها وهي ترقص منتشية بالنصر الموهوم! وتنصّب نفسها فوق البنية الثقافية للشعب الفلسطيني بوصف ما دونها مجتمعاً ملحقاً بها. ومثلما كتب الحكيم جورج حبش محذراً من الخراب الكبير: «قد نواجه هزيمة عسكرية أو اثنتين وهذه مشكلة، لكنها في تقديري ليست كارثة، وقد يلي الهزيمة العسكرية كما حصل عام 1967 انهيار سياسي، وهذه مشكلة مضاعفة، ولكنها أيضاً ليست كارثة، فالأمور ستعود للاستقامة، ولو بعد حين، ولكن الكارثة تحدث عندما تنهار الجبهة الثقافية - النظرية. إن هذا الانهيار يمتدّ ليصل إلى عمق الإنسان، الذي يشكل الأساس لأيّ نصر عسكري أو سياسي»

* كاتب روائي وقيادي في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»