ليلة الخميس أتى شخص وصديقته إلى المحلّ وقضيا وقتاً يتحادثان ويحتسيان الماء. عندما كانا على وشك المغادرة وفيما كانت صديقته في التواليت، قال لي إنّ لهجتي الإنكليزية تدلّ على أنّي من لبنان. في العادة حين يحصل ذلك، أقرب ما يحزره الناس من لهجتي أنني من مصر أو تركيا أو أميركا اللاتينية لسبب ما ربما هو الملامح الجنوب متوسطية. لكن هذا الشخص حزر الجواب الصح فوراً. قلت له: «نعم من لبنان، ولهجة لبنان هي لهجة بلاد الشام بشكل عام مع بعض التفاصيل». تركت الجزء الفلسطيني لمرحلة لاحقة من الحديث لأنّ العقل الأميركي لا يستوعب معنى «فلسطيني من لبنان». معه حق، لأنّ كل ما حصل في المنطقة وخلق شيء اسمه «فلسطيني لبناني» أو سوري أو أردني أو مصري وغيره، هو أمر مخالف للطبيعة ولا يركب على عقل. ولهذا السبب كانت وستظل إسرائيل أمراً مخالفاً للطبيعة البشرية ولو أعطاها الغرب كل سلاح العالم وكل مال العالم وكل وسائل إعلام العالم، لأنه لا يمكن أن يخفي أحد الشمس خلف إصبعه. وفجأة، انتقل هذا الشخص الأميركي إلى الحديث بالعربية الطلقة وسألني: كيف حالي وما اسمي؟ ومن أين من لبنان أنا؟ والسؤال التقليدي: هل أنت من بيروت؟ قلت: «أنا من مناطق الريف اللبناني في شرق لبنان، ولكن الأسرة تسكن حالياً في بيروت». قال: «أين في الريف اللبناني؟». وبدأ يعد قرى وبلدات صغيرة في لبنان ومن الجبل نزولاً صوب سهل البقاع، وهو يعد بلدة بلدة وقرية قرية. سألني إن كنت من بحمدون. قلت: «لا». وسألته كيف يعرف العربية بطلاقة. توقعت أنّه سيقول إنه درس العربية في قسم دراسات الشرق الأوسط في إحدى جامعات أميركا. ولكن جوابه فاجأني فعلاً. قال إنه درس في قسم الدراسات اليهودية. للأسف، لم أسأله في أي جامعة أو أي معهد، لكن سألته باستهجان حقيقي عن علاقة الدراسات اليهودية والعبرية ببحمدون. أجاب إنّه كان يوجد كنيس يهودي عامر في بحمدون وعدد كبير من المدن اللبنانية والبلدات والقرى. وقال إنّه درس في مكان متخصّص في إحصاء كل كنيس يهودي في العالم العربي، وهو يدرس عن كل كنيس في لبنان بهدف إعادة إعماره وإحياء الحياة الدينية اليهودية فيه. قلت لها هازئاً ومتحدّياً: «لا تقلق، من الممكن جداً أنكم ستأخذون كل تلك التي تحصيها مجدداً». فردّ بكل هدوء وثقة غير مبالغ فيها ولا متصنعة ولا متحدّية ولا فيها أي عاطفة غير الثقة بحصولها بكل بساطة. قال بابتسامة هادئة وآمنة: «أنا لست قلقاً».
عندها، كانت صديقته قد عادت وسمعت طرفاً من الحوار وغادر الشخصان بعد الشكر والتقدير. قالت صاحبته إنّها أحبت المكان جداً جداً وكرّرت ذلك مرات عدة. ومن تجربتي مع تلك الفئة، فإنهم حين يقولون ذلك فإنهم يؤمنون خروجاً وانسحاباً آمناً وسالماً لهم بدون أن تأتيهم أي مفاجأة في الطريق. الجماعة لديهم حس فطري بطرق ووسائل الانسحاب والتسلل بهدوء وبدون ضجة أو صراع لكي يكون ظهرهم آمناً ومحمياً حين يخرجون تماماً، كما حصل في أيار ٢٠٠٠. هذا السلوك ينطبق على الجماعة وعلى الجيش وعلى الفرد.
للأسف لم أسأل هذا الشخص أين درس وما هي غاية تلك الدراسة وكيف سيحققون تلك الأحلام، مع أنّه لدينا فكرة عن مفعول الحروب الأهلية العربية والحركات الدينية السلفية ـــ مسلمة ومسيحية ـــ في خدمة مشاريعهم. كثير من الأسئلة لم أتمكّن من طرحها على هذا الشخص والكثير من الحقائق كنت أودّ الاطلاع عليها منه، من باب حب الاستطلاع فقط. لكن لم يتّسع الوقت لذلك. ربما لو تسنّى لي لقاء ذلك الشخص ثانية، لسألته. والغريب أنّه كان في غاية الانفتاح ولم يتعاطَ مع الأمر كما لو أنّه سرّ أو مؤامرة تدبَّر في ليل أو أنّها معلومات لا يمكن الكشف عنها. بالعكس، حكى بكلّ عفوية وصراحة ومباشرة كأن ما يقوله قد حصل أو أنّ حصوله تحصيل حاصل. لكن لم يخلُ الأمر من أني تعلمت شيئاً منه لم أكن أعرفه إطلاقاً، ولا أظّن أنّ أحداً يعرفه أو يفكر فيه أو يبحث عنه، لأنّ الجميع متلهٍّ بفيلات الكويتيين في بحمدون وبمسجد الكويتي الذي بناه شخص كويتي في تلك البلدة الجبلية الوادعة. ما تعلمته من ذلك الشخص أنّ هناك كنيساً يهودياً في بحمدون، وأنّ هناك أناساً يعملون لإعادة إعماره والعمل به. وحدها إسرائيل وجماعاتها حول العالم تعلم بكنيس بحمدون، وربما لديها تصوّر دقيق حول موعد إصلاحه وتاريخ بدء الصلاة فيه لرب إسرائيل ومعها جحافل الإنجيليين الذين لا يتوقفون عن النطق باسم المسيح، ولكن كل ما يعملونه هو لمجد إسرائيل.
وفي تلك الأثناء وفيما يعدّون العدة لسقوط بحمدون من أعمال فينيقيا، يتصارع أهل لبنان على حسان دياب وسعد الحريري ومنصب من هنا وسرقة أموال البلد من هناك.
«اصْعَدِي إِلَى جَبَلٍ شَامِخٍ يَا حَامِلَةَ الْبِشَارَةِ إِلَى صِهْيَوْنَ. ارْفَعِي صَوْتَكِ بِقُوَّةٍ يَا مُبَشِّرَةَ أُورُشَلِيمَ. اهْتِفِي وَلا تَجْزَعِي. قُولِي لِمُدُنِ يَهُوذَا: هَا إِلَهُكُمْ قَادِمٌ 10 بِقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَذِرَاعُهُ تَحْكُمُ لَهُ، وَهَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَمُكَافَأَتُهُ أَمَامَهُ. 11 يَرْعَى قَطِيعَهُ كَرَاعٍ، وَيَجْمَعُ الْحُمْلانَ بِذِرَاعِهِ، وَفِي أَحْضَانِهِ يَحْمِلُهَا وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ بِرِفْقٍ» قال اشعيا. ومن له أذنان فليسمع، وعشتم وعاش لبنان. ورحم الله أيام تصدي المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية للجيش السوري في بحمدون. صار علينا أن نعد العدة مجدداً لمواجهة جيوش هياكل إسرائيل الزاحفة عاجلاً أم عاجلاً أكثر صوب بحمدون. بس يا ريت فينا نعرف إن كانوا زاحفين نحو بحمدون المحطة أو بحمدون الضيعة لنعرف كيف نتصرف وندبر حالنا.
«يقول الجامعيُّ: ولا أَنا، لا شيءَ يعجبني. دَرَسْتُ الأركيولوجيا دون أَن أَجِدَ الهُوِيَّةَ في الحجارة. هل أنا حقاً أَنا؟/ ويقول جنديٌّ: أَنا أَيضاً. أَنا لا شيءَ يُعْجبُني. أُحاصِرُ دائماً شَبَحاً يُحاصِرُني/» (محمود درويش)

* كاتب فلسطيني مقيم في نيويورك