ربما كان الرثاء واحداً من الأنواع الأدبية الآخذة في الإختفاء، لا لأن الرحيل في بلادنا أمرٌ قليل الحدوث، ولكن لأنَّ هذا الفن كطريقة أصعب من غيره، ذلك أنه يستهلك «صاحبه» أكثر من غيره. يختلف الرثاء كحرفةٍ عن غيره من الفنون الشعرية، إذ لا يتكل على مهارة الشاعر فحسب، بمقدار ارتكازه على مشاعره واستطاعته اظهارها للعلن، وتعرية روحه وألمه تجاه من فقد؛ وهذا بحد ذاته يجعل الأمر صعباً للغاية. يخوض الكاتب والباحث السوري جان يونان هذه التجربة من خلال ديوانه الشعري الرثائي «مراثي شولغي»؛ وشولغي هو طفل الكاتب الذي رحل حدثاً عن اثني عشر عاماً.يشرح الكاتب في مقدمة الكتاب لِمَ أسمى طفله «شولغي»، وهو اسم لأحد ملوك «سومر» العظماء. وهو إذ ينطلق من «نصٍ» تعريفي بذلك الملك العظيم الذي أعطى شولغي إسمه، كان قد وزّعه إبان الاحتفال بولادة ابنه الراحل. ولأن النص «رثائي»، علينا أن نميّز بين عالمين يحاول الشاعر التداخل بينهما. إنه عالمه الداخلي الخاص الذي لا يزال شولغي يعيش فيه، حياً، يكبر، ويأكل ويشرب وينام. عالمٌ لم يلمسه الموت فيه البتة. هذا العالم نلامسه في الصفحات الأولى للكتاب حينما قدّم التعريف حول الإسم، ثم أعقبه بالمقدمة حول الإسم. تبرز الفكرة واضحةً. أما العالم الثاني فهو الذي يظهر لاحقاً حين يستبد الحنين بالشاعر، فيظهر النص الرثائي، القائم كليةً على المشاعر، ويتأكد من أن طفله لم يعد هنا، فيستحضر لغته الندائية، محاولاً استذكاره لا كطفلٍ محبب وابن يحتاجه والده، بل أيضاً كجزءٍ لا يتجزأ منه شخصياً. ولا ريب أن استخدام نص شعري رثائي للشاعر السوري نزار قبّاني لهو أكبر تأكيد على تلك الفكرة.
شعرياً يقارب النص لغة المباشر، إذ لا يميل الشاعر إلى استخدام لغةٍ معقدة مع تشابيه ومجازٍ وسواها، إنه يريد أن يقول ما بداخله كما هو، من دون أن يعطي أي مجال لتأويلٍ من أي نوع: كنت أنتظر نضوج اللوز/ فإذا باللوز يسقطُ/ زهراً. هنا تتحرّك اللغة بشكلٍ مباشر، من دون أي مواربة: جدي العظيم كلكامش/ يا ملك الملوك/ ألم تندم/ حين وضعت عشبة الخلود/ على طرف البحيرة/ حتى تسنى لأفعى ابتلاعها رشفاً. يقارب الشاعر أسطورة جلجامش في ملحمته الشهيرة، حين بحث عن زهرة الخلود، ولما وجدها لم يستطع الحفاظ عليها، «فبقي الموت سراً عظيماً عديم الفهم، وحقيقةً لا مفر منها». إنه إدراك الوعي بالنسبة للشاعر بأن هذا الأمر لا مفر من حدوثه. هو يسأل في مرثيته: «هل يمسح دمعي حزن نفسي؟/ هل يجعلني أهرب من الأوجاع؟/لا.. فلا الدمع يشفي، ولا الزمن ينسي،/بل كل ما حولي يذكرني به» أو مثلاً: «لا/ لن يهجرك الحزن/ فهذا محال/ قد يغافلك الوقت حيناً/فيغيب الحزن طوراً/../لكنه يعاود انبثاقه من جديد/».
هذا الحزن المطلق يؤكده اقتراب النص من فكرة واحدةٍ محددة: «إن رأيت الثلج يهوي/ طيفه الأبيض يجول هناك/ ببياض يفوق الثلج/ بياضاً». إنها حكمة أن يبقى المحبوب حياً مهما كان أو حدث، إنه ذلك العالم الذي أشرنا إليه والذي يسكنه الشاعر. «ألمسه في شموع القناديل/ وفي حبات المطر/ أبحث عنه تحت أشجار الكرز» إلى أن يصل إلى السؤال الذي يضعه أمام الحقيقة: «وماذا سأجيب من يسألني عنه/ سوى إنه عند الإله». لايتوقف حزن الشاعر عند هذا الحد، إذ إنه سرعان ما يستدعي كل التفاصيل التي تسكنه وعلاقته مع «شولغي»، فيحاكي كيف أنَّ: «عصفورة الشجن/ تجاهلت كل أغصان الدنيا/ وبنت عشاً/قرب نافذتي» و«نجمة الصبح/ أحيت حفلة/ بقدوم جارها الجديد/ ودعت لإستقباله باقي النجوم». وكذلك: «تقمصتني عند الغروب/ قرنفلةٌ حمراء/ ذات عبير ثملٍ/ذاب في امتدادات الفضاء». لكن الألم سرعان ما يحتل كل الأماكن، ويأخذ كل الألوان، حينما يطل المباشر: «وأتى/عيد ميلادك الثامن عشر/ لا احتفال، لا شموع، ولا تهاني» وحيث «طغى لون السواد على جميع ألواني/ ماعدت تهرول كما ألفنا/ تجلب قالب الحلوى/والأواني». إنه الفقدان كما هو من دون أي تجميل، بكل قسوته، ووحشته ووحشيته: الطفل الذي كان أنس المنزل، وحركته، والنور الذي يضيئه، لم يعد هناك. كيف يكفي الشعر أن يقول كل هذا؟ كيف يمكن لكلماتٍ مهما كان اتساعها أن ترسم ذلك الألم، هنا يمكن استحضار كلمات الصوفي الشهير محمد النفري الشهيرة: «كلما اتسعت الفكرة، ضاقت العبارة». فهل هناك فكرةٌ أوسع وأعمق من الموت، كي لا تضيق بها العبارة؟
في الختام، هو نصٌ شعري رثائي حزينٌ للغاية، هو ليس للجميع بالتأكيد، لكنه يستطيع لمس كل من يقرأه، فمجرّد قراءة البداية/ المقدمة حتى تعتبر أنك أصبحت جزءاً من هذا الكتاب، وهذا الحزن بالتالي. إنه نوعٌ من دمج القارئ مع ما يشعر به هذا الشاعر يومياً، ولايزال.