بغداد | بين حُمّى الجدل السياسي والاحتجاجات الشعبيّة، ينقضي عام 2019 في العراق من دون أحداث ثقافية استثنائية. وإن كانت هناك سمة تطبع السنة المنصرمة فهي الخسارات التي باتت رفيقة العراقيين في شؤونهم اليوميّة، إذ شهد العام رحيل أسماء بارزة عدة، شكّل غيابها خسارة فادحة للمشهد الثقافي والفني. بدأت السنة الحاليّة برحيل الباحث والأديب علي الشوك الذي توفي في أحد مستشفيات لندن عن 90 عاماً، كما غادرتنا عالمة الآثار المعروفة لمياء الكيلاني في الأردن، وعالم الاجتماع متعب مناف، وعميد المسرح العراقي سامي عبد الحميد بعد صراع مع المرض، بينما صُدم المشهد الثقافي بوفاة الشاعر فوزي كريم في لندن إثر أزمة قلبية حادّة بعد مسيرة لافتة في الكتابة الشعرية والنقدية حقّق من خلالها حضوراً راسخاً كرّسه كإحدى العلامات الفارقة في جيل الستينيات. غادرنا أيضاً المترجم الرائد عطا عبد الوهاب، والكاتب الصحافي عدنان حسين، والباحث عز الدين مصطفى رسول، وأمين سر اتحاد أدباء العراق الشاعر إبراهيم الخياط إثر حادث مروري مؤسف، والمترجم عبد الإله النعيمي، والروائي أسعد اللامي. لكن مقتل الروائي علاء مشذوب خلّف صدمة في الوسط الثقافي إثر هجوم مسلح نفّذه مجهولون في كربلاء.هذه السنة، كانت السمة الأبرز هي الإنجازات الفرديّة لمثقّفين وفنانين ومخرجين حققوا نجاحاتهم وحصدوا جوائزهم بعيداً عن مؤسسات الحكومة الذي ظلّت تجتر فعّاليات مكررة لا إثارة فيها. فاز عدد من الأدباء العراقيين بجوائز مهمّة عدة، منهم فوز الشاعر علي جعفر العلاق بجائزة «سلطان العويس» الثقافيّة عن حقل الشعر، والكاتب حسن النواب بجائزة «الطيب صالح» عن روايته «ضحكة الكوكوبرا»، والقاصّ علي حسين عبيد عن مجموعته القصصية «لغة الأرض» عن الجائزة ذاتها، فيما حصد محمد صابر عبيد المركز الثالث في مجال النقد. أما جائزة «كتارا» لهذا العام فحصدها الروائي هيثم بهنام بردى عن فئة الرواية الموجّهة للفتيان، والروائي وراد بدر السالم عن فئة الرواية غير المنشورة. بينما ضمت القائمة الطويلة لجائزة «الملتقى» للقصة القصيرة مجموعتَي «كذلك» لبرهان المفتي و«سواد» لسعد هادي. كما فاز الشاعر باسم فرات بـ «جائزة السلطان قابوس» (بدورتها الثامنة) عن فرع الآداب (مجال أدب الرحلات). وقد اختتمت السنة الحاليّة بإعلان ترشّح اسمين روائيين عراقيين للقائمة الطويلة في جائزة «بوكر» العربية لعام 2020 هما أزهر جرجيس عن روايته «النوم في حقل الكرز» (دار الرافدين)، وعالية ممدوح عن روايتها «التانكي» (منشورات المتوسط)، فيما وصلت الروائية إنعام كجه جي الى القائمة القصيرة لبوكر 2019 عن روايتها «النبيذة»، بينما اكتفت الروائية ميسلون هادي بالوصول إلى القائمة الطويلة بروايتها «إخوة محمد». انتقلت الإنجازات الفرديّة العراقيّة إلى المسرح أيضاً، وتحديداً إلى فعّاليات الدورة الواحدة والعشرين لـ «مهرجان قرطاج الدولي للمسرح»، حيث نال الفنان رائد محسن جائزة أفضل ممثل، والسيناريست علي عبد النبي الزيدي جائزة أفضل كاتب سيناريو. وفي مجال السينما، تُوّج فيلم «قصص العابرين» للمخرج قتيبة الجنابي بجائزة أفضل فيلم روائي تجريبي في «جوائز لندن الدولية للأفلام السينمائية»، فيما فاز المخرج الشاب مهند حيال بجائزة أفضل فيلم في «مهرجان بوسان السينمائي» في العاصمة الكورية الجنوبية سيول عن فيلمه «شارع حيفا».
ومن الظواهر الثقافية اللافتة في العام الحالي كان الحضور المتصاعد لدور النشر العراقية الفتيّة التي باتت لا تكتفي بطباعة الكتاب والترويج له بل بصناعة الحدث الثقافي المتميز، كما في مبادرة «جائزة الرافدين» للكتاب الأوّل التي أطلقتها «دار الرافدين للنشر» لدعم الكتّاب الشباب عن فئات الشعر والقصة والرواية، حيث أقيمت في بغداد حفلة لإعلان نتائج دورتها الأولى (دورة القاصّ الرائد محمد خضيّر) كما تولّت الدار طباعة الأعمال الفائزة بمعيّة جائزة ماليّة. من جهته، أعلن «الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين» عن مسابقة خاصّة بالأدباء الشباب ممن لم يطبعوا كتاباً سابقاً بهدف اكتشاف مواهب شابّة ورفد الوسط الثقافي بدماء جديدة متكفّلاً بطباعة الكتب الفائزة.
معرضا بغداد وأربيل الدوليان للكتاب استمرا بحضور جماهيري لافت يعضد من علاقة القارئ بالكتاب، فيما حالت الاحتجاجات الشعبية في البلاد دون إقامة «معرض العراق الدولي للكتاب» و«معرض البصرة الدولي للكتاب». نشاط القطاع الخاص قابله نشاط ثقافي حكومي رتيب بعد انقطاع الدعم الحكومي عن المهرجانات الثقافية والفنية بسبب اتجاه الدولة نحو تقليص النفقات. تمثّلت أبرز النشاطات بدورة جديدة من «مهرجان المربد الشعري» في البصرة برعاية وزارة الثقافة، ولم يختلف المهرجان كثيراً عن الدورات السابقة له، ما أثار سجالات واتهامات عن جدواه اعتادها الوسط الثقافي إلى درجة الملل.
ترك مقتل الروائي علاء مشذوب صدمة في الوسط الثقافي إثر هجوم مسلح نفّذه مجهولون في كربلاء


وكحال الصحافة الثقافيّة في بقية البلدان العربية، عانت المطبوعات الثقافية هذا العام من انحسار حضورها وتقلّص مساحاتها، وربما تكون النقطة المضيئة الوحيدة هي «بين نهرين» التي تحوّلت من جريدة ثقافية أسبوعية إلى مجلة شهرية (75 صفحة) يشارك فيها أبرز الكتاب العراقيين وتستقطب إسهامات عربية وأجنبية واسعة، ما شكّل علامة صحية نادرة. وفيما تواصل الصدور الشهري لجريدة «تاتو»، تعثّرت مجلة «باليت» المتخصّصة في الفن التشكيلي.
شهد العام الحالي ترسيخ دور المقاهي الثقافية في إقامة فعّاليات مثل الندوات وحفلات التوقيع والأمسيات الشعريّة. الظاهرة بدأت من بغداد وتوسّعت إلى بقية المحافظات وشملت شارع المتنبي في العاصمة، وشارع الفراهيدي في البصرة، وشارع الجواهري في النجف، والرصيف المعرفي بميسان، ضمن نشاطات تجاوزت بيع الكتاب إلى إقامة معارض فنيّة وبازارات تراثيّة وورش ثقافية متنوعة.
وقد تكون الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الحالي هي الأكثر إثارة، فمع بدء الحراك الشعبي والتظاهرات التي انطلقت مطلع تشرين الأول (أكتوبر)، انتشر جدل ثقافي واسع وتبادل اتهامات بين المثقفين العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي الذين انقسموا بين مؤيّد ومعارض لدعوات إضراب المدارس والجامعات، حيث وصل الأمر في بعض الأحيان إلى الشتائم المباشرة والتخوين، فيما انهمكت صفحات فيسبوك وتويتر لمثقفي العراق بتحليل أحداث الشارع ومتابعة تطوراتها المستمرة إلى الآن.