قادماً من صوب أغنية، وذاهباً نحو قصيدة. هكذا أمضى وليم حسواني (1933 ــ 2019/ الصورة) أعوامه الستة والثمانين. المعلّم والشاعر والممثل والرجل القانع دوماً بما تتيحه شجرة الإبداع من ظلال متواضعة، مضى أوّل من أمس، باسماً كعهده دوماً. لم تنجح الدنيا يوماً في دفع حسواني نحو مقايضة ما يملكه من طيبة وقناعة وثقة إبداعية بشيءٍ من إغواءاتها الكثيرة.كان شغوفاً بالروعة دوماً، حريصاً على أن تنجح القصيدة، سواءً أكانت له أم لسواه، في دفع العيون نحو معارج الدهشة. كان منحازاً بإصرار إلى الجمال أيّاً تكن مذاهبه، ولعلّه من القلّة التي لم تستجدِ الموهبة بل عملت على صنعها.
كان للفنان القابع في داخل وليم حسواني أن أقصى «الأستاذ» الذي توسله يوماً في الاستجابة لمتطلبات العيش، دافعاً به نحو مرتبة الشاويش الذي يمتلك لكلّ مشكلة حلّاً ساخراً. ذهب إلى الرحابنة، فقبلوه راقصاً في مسرحية «موسم العز»، وسرعان ما اكتشف عاصي الرحباني أن خلف الصوت الواثق الذي يميّز حنجرته تكمن موهبة إضافية فأقرّه ممثلاً ومغنياً، ثمّ كان على الشعر أن يمتلك حيّزاً من مساحة الإبداع التي سوّرها وليم حسواني حتى تأخذ الحكاية أبعادها كاملة.
كان «الشاويش» في أكثر من مسرحية: «بياع الخواتم» عام 1964، و«الشخص» عام 1968، و«يعيش يعيش» عام 1969، و«المحطة» عام 1975، وفي «ميس الريم» أيضاً عام 1975. حتى صارت التسمية ملازمة له أكثر من اسمه الشخصي.
في مسرحية «هالة والملك» عام 1967، لعب حسواني دور «الشحاد»، كما أُسند إليه دور «القاضي» في مسرحية «لولو» عام 1974، في حين تميّز بدور «السمسار» في مسرحيتَي «الوصية» و«دواليب الهوا»، وبدور «الشيخ خاطر الخازن» في مسرحية «فخر الدين» التي عُرضت عام 1965.
كانت أدواره مزيجاً محبّباً من تمثيل وغناء، بالرغم من وعورة المسالك التي تميّز بها المسرح الرحباني، حيث كان الهاجس الأساسي الحفاظ على تألّق السيدة فيروز وتمايزها كصيغة فنية متفرّدة، في حين يبقى على الآخرين أن يكافحوا للحصول على منصّة حضور متواضعة في محضر العمالقة، فقد أمكن لوليم حسواني في ما يشبه المفارقة النادرة أن يحيط مكانته الإبداعية بسور عصيّ على الاختراق. لم يجد نفسه معنيّاً بتأكيد حضوره، أو منافسة الآخرين. يكفي أن ترفع الستارة حتى يكون «الشاويش» بين من ينتظرهم الجمهور، أحياناً في طليعة هؤلاء، ليصغي إليه بمحبّة تقارب الشغف.
عامل إضافي ساعد وليم حسواني على تفادي الهواجس التي تحكّمت بأمثاله من المنخرطين في التجربة الرحبانية، والتي تمحورت حول تأكيد الذات وسط خضم بحر هائج من الإنجازات سيكون عليها أن تشكّل جوهر التأريخ الإبداعي لمرحلة تتّسم بكثير من الخصوبة والفعالية. يتمثّل العامل المشار إليه بكون الرجل منحازاً منذ البدء إلى الصفاء الإبداعي المجرّد من شوائب الظهور والدعاية. آمن بكون الشعر والموسيقى والأداء قيماً قائمة بذاتها دونما حاجة لتسويق وتزوير. أمكنه بفعل هذا الوعي المتميّز أن ينجو من مطبّات التصنيع الإبداعي، وتحريف الأهواء لدفعها نحو الأهواء والأوهام. بدا حسواني أقرب إلى قطعة ذهبية صافية تمتلك قيمتها من ذاتها في زمن هيمنَت عليه تشكيلات فنية تستمدّ قيمتها من تغطية ورقية يصعب الدفاع عن صدقيّتها.
انكفاء المسرح الرحباني لم يلغِ الحضور الذي تميّز به وليم حسواني بالرغم من كونه أحد معالمه البارزة. لم يتردّد «الشاويش» في خوض تجارب مسرحية لاحقة. فها هو يلعب دور «رئيس البلدية» في مسرحية «الحق ما بيموت» للأب فادي تابت، وقد استمرّ تعاونهما في مسرحيات «ثورة الشعب» و«الحرم الكبير» و«نهاية حلم»...
في المسرح الرحباني، كانت أدواره مزيجاً محبّباً من تمثيل وغناء


كان الشعر ملجأ حسواني عندما تضيق الدنيا به وعليه، آمن بالكلمة النقيّة المعبّرة عن حقائق الوجود، لم يكن معنيّاً بأن يكرّس نفسه كقامة شعرية شامخة، وهو يستحقّ ذلك. انشغل بالبحث عن المواهب الشعريّة الواعدة وتعهّدها بالرعاية. مجدّداً، شكّل الشعر بالنسبة له قضيةً يُكافَح من أجلها، وليس مجداً يسعى إليه. عام 1996، أطلق منتداه الأحبّ إلى قلبه «صالون وليم حسواني للشعر والأدب» الذي ساهم في إطلاق الكثير من المواهب الشعريّة المميّزة، كثيرون ممن يشكّلون المشهد الشعري الراهن عبَروا من ذلك المنتدى الذي استقبلهم بحفاوة ومحبّة نادرتَين.
في فترة الهدوء المهنيّ، استجاب «الشاويش» لنداء الشعر فأصدر ديوانه «شريعة الغاب» بأجزائه الثلاثة، مختزناً تجربة العمر الثري، ومرصّعاً إيّاها بصوره الباذخة التي أينعت على ضفاف حياة إبداعية ملوّنة.. لتبدو أقرب إلى حديقة أزهار جرى الاعتناء بها جيداً.
بعدك يا وليم حسواني سيكون على «الشاويش» أن ينكفئ نحو تعريفه البدائي، وستفتقد الكلمة مجازها، وسيستشعر المسرح رهبة الفقدان.

* يُحتفل بالصلاة لراحة نفسه بعد غدٍ الخميس في كنيسة مار جرجس (الخريبة ــ الحدث)، ثم يوارى في الثرى في مدافن العائلة في رأس الحرف (قضاء بعبدا)، وتُقبل التعازي بعد الدفن في صالون كنيسة سيّدة الانتقال في القرية نفسها.