حلِمنا بأكثر من ذلك داخل المصارف. في تاريخنا ذكرى علي شعيب في «بنك أوف أميركا». وأحياناً، ولأننا صرنا أكثر انضباطاً، وقد تعلّمنا ما يجب وما لا يجب فعله، حلِمنا بأقل من ذلك، أي بما يكفي للخروج من وضعيّة انتظار أن ينادينا الموظفون بأرقامنا. أوّل من أمس، فعلتها مجموعة من الشبان والشابات في فرعين لمصرفي SGBL وBLOM في بيروت. قلّة كانوا معهم هناك، غير أنّ أغنياتهم خرجت من المصارف سريعاً ووصلت إلينا على فيسبوك وتويتر بفضل كاميرات الهواتف. ثمّ عادت بطريقة ما إلى المصارف مجدّداً. إحدى الفتيات لديها قرض خاص من «بلوم بنك». كلّما أخفق البنك في الوصول إليها عبر الهاتف، طاردها الموظّف على واتس آب لتذكيرها بالدفع. لكنها هذه المرّة أرسلت لهم على واتس آب أيضاً الأغنية التي أدّتها المجموعة في مصرف «بلوم» قبل يومين. هذا ما فعلته. كتبت ذلك في تعليق على فيسبوك، ضمن حملة «مش دافعين» التي أطلقها ناشطون يدعون إلى التوقّف عن تسديد القروض كردٍّ على تخلّف المصارف عن منح المودعين أموالهم. كلّ من لا يريد أن يدفع، صار بإمكانه أن يرسل الأغنية احتجاجاً ورفضاً، وخصوصاً أن المجموعة وعدت بأن تزور فروع مصارف أخرى. في الأيّام العاديّة، لن تبدو مجموعة تغنّي برفقة عازف إلا فرقة جوّالة تدخل إلى المؤسسات والشركات لتؤدّي أغنيات الميلاد، وخصوصاً خلال فترة الأعياد. لكنها هذه المرّة كانت دعوة تحريضيّة، ضدّ المصارف تحديداً. بينما كان الناس مشغولين بتحصيل أموالهم، دخل كورس الناشطين والناشطات، برفقة العازف سماح أبو المنى إلى مصرفَي BLOM وSGBL. صوت الأكورديون سبق الجميع. غنّوا معاً «مش علينا عليك اللوم، ردّ المصاري يا بلوم، وعدتونا براحة البال، والكن من شهرين سكوت، اختنق الشعب وضاق الحال، عشنا عراحة وبسكوت… رحتوا استثمرتو برّا، بِحجّة ولا أخرى، هرّبتوا فلوس النوّاب، فلّستونا بالمرّا». أدّوا الأغنية على لحن «بين العصر والمغرب». يعتمد هذا الغناء الحيّ في مواقع المواجهة، على اختيار أغنيات معروفة شعبياً، وتغيير كلماتها في محاكاة ساخرة للوضع السياسي والاقتصادي في البلاد. سمع الأغنية كلّ من كان في البنك. الموظّفون والناس الذين لا بدّ من أنهم شعروا لحظتها بدعم مضاعف للإصرار على تحصيل أموالهم، وخصوصاً حين تلا أحد الناشطين بياناً حول أرباح المصرف: «حقّق «بنك لبنان والمهجر» أرباحاً صافية وصلت إلى 2,6 مليار دولار بين عامي 2013 و2018، فيما أعاد منها 68% إلى أصحابها». وفي الختام، شدّد على أنه يجب على البنك أن يدفع الأموال للدولة، لا أن تدفع الدولة دينها له من أموال الشعب. المعركة واضحة، وأطرافها كذلك. في بنك SGBL تكرّر المشهد، هذه المرّة على لحن «طلع الضوّ عالواوي» (كلمات وألحان الياس الرحباني)، ‏أنشدوا «SGBL هالواوي، هالواوي SGBL، صار يسرق من جيب لجيب، ما عندو حيا ولا عيب، SGBL صحناوي، كرمالو بعنا كلاوي، كوّم علينا هالدين، بدل الدفعة دفعتين، ونحن مصرياتنا وين». الموسيقى سمعناها مراراً تُعزف خلال الانتفاضة في الشارع، وسط التظاهرات، لدى تسكير الطرقات، وعلى المفارق، كما حين تجمّع موسيقيون في القنطاري؛ من بينهم العازف سماح أبو المنى عضو فرقة «الراحل الكبير» ووجه دائم في عروض «مترو المدينة»، إلى جانب المصوّرة وعازفة الإيقاع عليا حاجو وناشطين وآخرين ممن دعوا ذات صباح إلى تسكير الطرقات نحو «البنك المركزي» على لحن «شتي يا دنيا» لفيروز. في أوقات الثورات والانتفاضات الشعبية، يكون الفن أداة أساسيّة للتعبير، عبر الرسم والغرافيتي أو الموسيقى الحيّة في الشارع. احتجاجات تندرج ضمن Agitprop، أو البروباغندا التحريضية التي تشتمل على كلّ نشاط ثقافي أو فني مدفوع بغاية وأفكار سياسيّة. تعود الـ Agitprop إلى بداية العشرينيات في روسيا، عندما سعى «الحزب الشيوعي السوفياتي» إلى التأثير أيديولوجياً على الجماهير عبر الملصقات السياسية، واللوحات الفنية، وفرق الهواة المسرحيّة والموسيقيّة التي كانت تجوب الطرقات والساحات وتتنقّل بقطار يحمل شعارات وملصقات. كانت تلك الطريقة الأكثر فعالية للوصول إلى الفلاحين والعمّال من دون خطابات مباشرة.
Agitprop هي بروباغندا تحريضية تعني كلّ نشاط ثقافي بغاية سياسيّة

النمط نفسه انتشر في ألمانيا نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، وخصوصاً بعدما زارتها فرق مسرحية سوفياتية. وانتقل إلى الموسيقى أيضاً، خصوصاً لدى موسيقيين عملوا مع بيرتولت بريشت في مسرحه؛ منهم المؤلّف النمسوي هانز إيسلر الذي كان يشدّد على أنه «يجب على غنائنا أن يجسّد الصراع». في المسرح البريشتي، تؤدي الإغنية دوراً تغريبياً، يتمثّل في دخول فرقة موسيقية للحدّ من تماهي المشاهد عاطفياً مع المسرحيّة وشخصيّاتها. في حالة المصارف، حيث لا مسارح ولا خشبة ولا جمهور، أيقظت الفرقة الناس والموظّفين وإدارة المصرف. قطعت حركة التبادل اليوميّة، إن كان لا يزال هناك تبادل الآن، والتحقت باحتجاجات الناس الفرديّة للمطالبة بأموالهم الخاصّة. لم تغب المصارف عن مشهد الانتفاضة المصوّر، وخصوصاً ما نشر على وسائل التواصل الإجتماعي. بدلاً من الموسيقى، أيقظ كثيرون الصراع. هناك اقتحامات لا تحصى، أبرزها احتلال مجموعة من شباب «الحركة الشبابيّة للتغيير» مبنى «جمعية المصارف» في الجميزة. شبان وشابات آخرون دخلوا إلى فروع أخرى وألقوا بيانات تندّد بالسياسات المصرفية في لبنان، وبدور المصرف المركزي. قبلهم، وفي الليلة الأولى من الانتفاضة تحديداً، عرف المتظاهرون وجهتهم سريعاً. كسروا الواجهات وآلات الصرف الآلي. ومعظم من عجزوا عن الحصول على أموالهم، صوّروا فيديوات، ونشروها على وسائل التواصل. الكل بات بإمكانه أن يفعلها. وربّما كثر يعتقدون في لبنان وخارجه بأن على الصراع مع المصارف أن يكون أكثر راديكاليّة. بعضهم من الفنانين تحديداً، مثل الفنان الروسي بيوتر بافلنسكي الذي أشعل قبل عامين واجهة المصرف الفرنسي في ساحة الباستيل، وأطلق على احتجاجه اسم «أداء فني» لأن «وجود بنك في ساحة الثورة الفرنسيّة يجعل من المصرفيين ملوكاً» وفق ما صرّح للإعلام حينها. يزخر تاريخ الأداء الفني الحديث بهجمات دائمة على المصارف، مثلما فعل الأميركي ميل غيبونز الذي نفّذ سطواً على مصرف «كابيتال وان» في نيويورك قبل أعوام. أما نحن في لبنان، فلدينا فروع لا تحصى من المصارف التي لا بدّ من أن تكون كافية لتلبّي خيال الفنانين مهما كان جامحاً.