اهدن | كنت هنالك، منذ أحد عشر عاماً تحديداً، في صيف عام 2009 في معرض كتاب إهدن الأول، الشرارة الأولى التي فرقعت في سماء إهدن وما زالت نجمتها مضيئة حتى اليوم. كنت هنالك، أعني مع المنظمين، من المنظمين، في مجموعة من الشباب المراهق لم يعجبها السائد بإطاره الضيّق. لم تُرَحب بالنزعة الفورية في تبنّي الأشياء كموروثٍ مقدّس أعمى، فاختارت عدم الانتماء في جغرافيا الانتماءات المتأصلة، المتجذرة بين خيارَين لا ثالث لهما، وقرّرت البوح بدلاً عن الاختناق بالرفض من خلال إصدارها مجلةً ثقافيةً أدبيةً، تشكل منبراً حراً مستقلاً للتعبير عن خياراتها المتنوعة، غير المرحب بها أحياناً، تحمل اسم «بالعكس» (صدر منها 5 أعداد فقط في مدة عامين). عنوانٌ يفضح هويتها، يلخص مضمونها بالمباشر، قالت وقتها ما يجب أن يقال، بأشكالٍ مختلفة، مجسّدة بذلك اختلافاً يكوّن عقلية أفرادها وذواتهم.في ذاك الحين، رأت المجموعة أنه لا بُدّ لها من القيام بخطوةٍ أخرى، كانت هنالك ضرورة ملحة لمواجهة فراغ ثقافي عارم يعوم في الأرجاء، فجاء معرض الكتاب الأول في مبنى الكبرى الأثري في إهدن كضربةٍ ثقافيةٍ نوعيةٍ زعزعت ستاتيكو الرتابة وكسرت النمطية الجاهزة.
لم تستمر تلك المجموعة طويلاً، اختفت عن الساحة الثقافية تماماً وتوقفت عن إصدار مجلتها. لا لوم يقع على أحد، فبلدٌ منهكٌ مثل لبنان شاهد سقوط أحزابٍ كبيرة في العدم بعدما كان صيتها ذائعاً في دول ترسم سياسات العالم. فما بالك ببضعة شبان مراهقين رأوا في كتاب «الغثيان» حياة ورأوا بالحياة غثياناً؟
قلّةٌ قليلةٌ من تلك المجموعة كانوا من الناجين، هم من آمن براديكالية الممارسة الثقافية والاستمرار بها كمسارٍ رئيس لا غنى عنه. أولئك قرروا أن «يكفوا الطريق». سنتان لم تكونا كافيتين بالنسبة لهم لإنهاء المسيرة، فأعادوا ترتيب ما تشظى، نظموا أنفسهم مجدداً وبجديةٍ فائقةٍ تعلو فوق كل اعتبار وأطلقوا على أنفسهم تسمية «اللقاء ثقافي».
ماذا يبغى اللقاء الثقافي؟ إلام تطمح هذه المجموعة؟ «التجريب. المحاولات. محاولات تجريبية. التجريب في المحاولة مرةً أخرى بحال الإخفاق، هذا ما يهم». جاوبني مسؤول اللقاء الثقافي، نزار عاقلة. أهمية الممارسة، هذا ما فهمته. هذا ما كنت شاهداً عليه. لا يمكن اعتبار مسيرة «اللقاء الثقافي» امتداداً مستمراً وواضحاً للتجربة التي سبقتها. صحيح أنّ «اللقاء» أسسه بضعة أعضاء كانوا في الأساس منضوين تحت مجموعة ما كانت تسمى وقتها «بالعكس». إلا أن «اللقاء» لم يكن حدّاً في مواقفه، جذرياً في قناعاته كالمجموعة السابقة. هادن تارةً وساوم طوراً. لم يأتمن «اللقاء الثقافي» للنظرية أو بوضع معايير تسبق فعله. مختبره الأول والأخير هو التجربة. هذا هو أسلوبه، هكذا تُصنف ماهيته.
الممارسة عند «اللقاء الثقافي» لا حدود لها. «كود» شخصي يتحلّى به أعضاؤها. واجب وجودي عندهم يتحدّى عبث العجز. «عملانيةٌ» مطلقة إلى درجة أنّ التنفيذ يسبق الإقرار أحياناً. ممارسةٌ لا تُفهم إلا على النحو التالي: نمط حياة مدمن على ديناميكية الحركة في وسط متعطش لنشاطات تُعنى بشؤون مماثلة.
طوال السنوات الفائتة، لم يهدأ «اللقاء الثقافي». سيرته الذاتية حافلة. استقبل المهتمين ولم يقصر مع أحد. عندما غيّب الموت يعقوب الشدراوي (المسرحي الكبير)، كان اللقاء الثقافي أوّل من رثاه مخصّصاً له برنامجاً فريداً ضمن أمسية وقام بتوزيع كتيّب صغير للحاضرين عند انتهائها يحوي مقالات لكتّاب لبنانيين بارزين عن الراحل. وإذا أبدى أحد الكتاب الشباب رغبته بأن يوقع إصداره، سارع «اللقاء الثقافي» إلى دعوته لحفل توقيع. لن نتحدث عن الأمسيات الشعرية (كانت في أغلب الأحيان تُدار من قبل الشاعر فوزي يمّين) أو حتى عن الأمسيات الغنائية والمسرحية التي نظمها «اللقاء الثقافي» في مسرح زغرتا البلدي لأنها لا تعدّ.
وفي حين أن معرض الكتاب أصبح تقليداً سنوياً تعرفه إهدن، إلا أن «اللقاء الثقافي» رفض أن يكون ذا مركزية واحدة. رأى أنه من المجدي أن يكون ببساطةٍ صاحب المبادرة الأولى بتقديم نفسه في محطات مناطقيةٍ مختلفةٍ، محققاً بذلك فضاءً عاماً مشتركاً يجمع الكل، مروّجاً باندفاع للنشاطات الثقافية، خصوصاً في ما يتعلق بالكتب ومحاججاً بشراسة أن الاستمرارية هي واجب ولا تحتاج سوى إلى إدارةٍ جيدةٍ، عقلٍ منظمٍ وهادف، فارتأى «اللقاء» إقامة معرض كتابٍ جوّالٍ، زار فيه كافة البلدات المحيطة في قضاء زغرتا.
كان لـ «للقاء الثقافي» موعد هام مع نشاطات ثقافية أخرى سبقت معرض كتابه الثاني عشر، حيث أسهم بالتعاون مع بلدية زغرتا - إهدن في رعاية توقيع كتاب الروائي اللبناني رشيد الضعيف الجديد «خطأ غير مقصود» (دار الساقي) في مبنى الكبرى إهدن، كما يشارك أيضاً في توقيع الكاتب اللبناني كريم مروّة لكتابه «رحلة عمر» (الدار العربية للعلوم-ناشرون) يوم 7 آب (أغسطس) الماضي في المكان نفسه. وظلّ 31 آب الموعد الكبير لـ «للقاء الثقافي». إذ افتتح «معرض كتاب إهدن الثاني عشر» الذي تخللته برامج ثقافية عدة. شكّلت ساحة الميدان منصةً تفاعليةً حقيقيةً تجسدت فيها الديمقراطية بأبهى حلتها نقاشاً ومشاركة. لم يتميز معرض الكتاب الذي يُختَتم في الثامن من أيلول، بالشكل فحسب كون ساحة الميدان امتلأت بمكتبات صغيرة تشبه «الكيوسك» إلى حد كبير مصنوعة يدوياً ولا تتعدى مساحتها الثلاثة أمتار في الطول وستة أمتار في العرض، وتحتوي على أربعة آلاف عنوان كتاب، بل في المضمون أيضاً، لأنّ «اللقاء الثقافي» تخلى هذه المرة عن نموذج التمويل الريعي وبات مستقلاً، غير ملزمٍ بشرطٍ أو بأحد. عشرون دار نشرٍ شاركت في هذا المعرض بالإضافة إلى حضور مكتبة «بوكبوست» التي تعرض إصداراتٍ من ست دور مختلفة.
أما عن برنامجه الثقافي السنوي، فقد تخلله توقيع الشاعر جوزاف إبراهيم ديوانه «بخة ندي» والشاعر سليم عبدالله يونس ديوانه «روضة الأذهان» والشاعر ميلاد الدويهي إصداره النثري الأول «لن نبلغ السعادة إلا سراً». إنه الرهان الذي لم ينكث بوعده، رهان أثبت أنه غير خاسر يقطفه «اللقاء الثقافي» رويداً رويداً بعد سنوات من تراكم التجربة، ويبقى في انتظار الجولة الأخيرة، الربح الكامل أي التغيير النوعي الذي يعوّل عليه «اللقاء الثقافي»، متفائلاً بقدرة الكتاب كوظيفة تغييرية. الكتاب كأهم وسيطٍ، محاكياً التجارب، الكتاب كرافعة تستشرف الأمور.