ربما كنت تعلم أو لا تعلم. سؤال لن نجد له جواباً، لا اليوم ولا غداً. ذهبت هكذا يا أستاذ. ألم تدر بأنّ لك قراءً وأحباباً ينتظرونك صباح كل سبت، يتصفحون الجريدة (الأخبار) بدءاً من الصفحة الأخيرة؟ أمعقول أن يتصفّح المرء الجريدة بدءاً من الصفحة الأخيرة؟ ألم تسأل نفسك يوماً هذا السؤال؟ فجريدة السبت لن تعود أبداً كما كانت، أو قل كما نحن نحبها. الأخبار جريدة جيدة لكنها مع أنسي شيء آخر. هي جميلة بكل بساطة، من دون زيادة أو نقصان، والسبب أنها تحوي محطة يتوقف فيها من أحب الجمال، وكاد يؤلهه، ولا عجب، فالله جمال.
أحب المرأة إلى حدود العشق. فالمرأة كانت تسكن مخيلته وعقله وقلبه، ولم تفارقه قط، حتى إنها كانت تنساب على ريشته، حيناً بخفر، وأحياناً بفجور، لا فرق، فهو قد أحبها وكان متيّماً بها، بغض النظر عن حالها وحالتها. امرأة أنسي كانت تشبه كل النساء، ولكنها في الحقيقة لا تشبه أحداً. إنها المرأة التي يمكن أن تلتقي بها في كل الدروب، ولكنها موجودة فعلاً وحصرياً في مخيلة شاعرنا حيث اتخذت لها مقراً وعنواناً، وهي من وقت إلى آخر تنزل و«تتمختر» بين أسطر كتاباته الأدبية وحتى الشعرية النثرية، لا عجب، فبعض النثر عند أنسي تعبق منه رائحة الشعر.
ومن الأشياء التي سنفتقدها أفكاره ومقاربته لشتى المواضيع بصورة فذة وخلاقة، لا تشبه بأي حال من الأحوال تلك المقاربات المبتذلة التي مجّ القارئ منها لكثرة تكرارها، وربما هو من صلب الإعلام تكرار الأفكار نفسها لتعلق جيداً في ذهن القارئ، ولو كانت هذه الأفكار مجرد أكاذيب. أنسي كان يعارض أفكار جوزيف غوبلز، مسؤول الدعاية في الرايخ الثالث، جملة وتفصيلاً، فهو امتهن الصدق والشفافية طريقاً لبلوغ قلب القارئ وعقله في آن واحد. كان في قراءاته المتعددة والمتنوعة يبحث عن الفكرة الجميلة والجديدة ليعيد صياغتها وتقديمها للقارئ بأسلوبه الخاص، فكان مدرسة لابتداع كل ما هو جديد.
أما السمة الأبرز في كتابات أنسي فهي جمله البليغة ومفرداته التي كان يسكبها بأسلوب منمّق، تخال الكلمات تتدحرج من بين يديه، ونحن لا ندري أيهما يسبق: الفكرة أم الكلمة؟ ولكن في البدء كانت الكلمة، والكلمة عنده تأتي مباشرة من عند الآب، أي من عند الله.
في السياسة كان يكتب الوجع والألم والاضطهاد والتبعية والارتهان إلى الخارج. كان يكتب الحكاية اللبنانية ــ من فخرالدين حتى يومنا هذا ــ من الانصياع للمحتل التركي للحصول على لقب أو منصب أو جاه، إلى الاستقواء بالخارج لتحقيق غلبة وهمية على الشريك الداخلي. كلها كتب عنها بأسلوب مباشر، فسمّى الأشياء بأسمائها، ووضع الإصبع على الجرح... جرح الوطن عميق جداً. وقد استشرى الفساد وكثرت المحسوبيات وتعددت الولاءات، وبالرغم من كل ذلك لم يفقد الرجاء بقيامة الوطن، فبقي ذلك الصوت الصارخ في البرية.
* كاتب لبناني