لم يكن الغناء أكثر من هواية خاصة لدى ياسمينة جنبلاط. فهي، كما تحبّ أن تصف نفسها، متحفّظة. لطالما شكّلت الموسيقى جزءاً من حياتها، لكنها لم ترغب يوماً في دخول المجال، ولا سيّما أن جدّة والدتها كانت أسمهان. بدلاً من أن يكون الأمر دافعاً لها، كان رادعاً إضافياً حال دون احترافها الغناء. على أي حال، لم تكن الموسيقى العربية تهمّها. كانت تميل إلى الموسيقى الكلاسيكية والإفريقية الأميركية، ومغنيات أمثال إيلا فيتزجيرالد وبيلي هوليداي وساره فوهن.قبل أيام من موعد حفلتها مع غابريال يارد، روت جنبلاط في لقاء جمعها والمؤلف الحائز جائزة أوسكار مع «الأخبار» في بيروت: «المرة الأولى التي فكّرت فيها بالغناء كانت لاستعادة أغنية «يا حبيبي تعال». أدّاها كثر، لكن الاستعادات لم تكن دائماً لمصلحة الأغنية، وجعلتها في المتناول بطريقة رخيصة. قلت لنفسي إن غابريال يارد وحده كان قادراً على استعادتها بطريقة لائقة». كان ذلك قبل 15 عاماً. يومها قَبِل يارد اللقاء بالشابة في لندن، مكان سكنه، بعد إصرار والدته على ذلك بطلب من عمّة جنبلاط. يتذكّر يارد: «جاءت لتراني، وكانت حاملاً. كان ذلك في لندن وحدّثتني عن المشروع. كنت في ذلك الحين أعمل كثيراً وأؤلف موسيقى أفلام. أجبتها بأنني لست خبيراً بالموسيقى الشرقية، ونصحتها بالعمل مع مؤلف معيّن. لكن الأمر لم ينجح».


أتى اكتشاف جنبلاط لأسمهان في وقت متأخر، في الثلاثينيات تقريباً. تقرّ: «كنت معجبة بها كامرأة عاشت حرّة في مرحلة لم تفعل خلالها النساء شيئاً إلا المكوث في المنزل وإنجاب الأطفال. رَفَضَت ذلك. لطالما كانت موجودة في حياتي، وذكّرتني بأنني كامرأة، ليس هناك شيء يتعذّر عليّ فعله. بدأت الاهتمام بالموسيقى العربية عندما أردت معرفة ما هو الطرب. كنت أصغي إلى أم كلثوم وأسمع الناس يقولون «آه» معاً، فوجدت الأمر غريباً. لاحظت تشابهاً بين الـ«آه» التي تأتي بعد غناء أم كلثوم «يا ريت يا ريت عمري ما حبيتك» وقول فرانكلن في Amazing Grace When When When فيهتف لها الناس «قوليها قوليها»». في وقت لاحق، رغبت في استعادة أغنية أسمهان بمساعدة يارد. ليست أغنية طربية، فلم تكن هناك صعوبة كبيرة في أدائها، لكن شرط أن تتملكها وتعيد أداءها على طريقتها الخاصة. فهي ليست بمغنية أعراس أو كاراوكي كما تؤكد، وليس من «فائدة في استعادة فنان وتقليده. ما أحاول فعله، أن أعطي نفساً جديداً لأغنية أسمهان وأبقيها حية لأن أجيالنا لا تسمعها الآن».
13 سنة مرّت على اللقاء الأول بين يارد وجنبلاط، استمرت خلالها علاقة الصداقة بينهما، برغم عدم الاتفاق على أي تعاون مِهني. بعد اضطرار يارد إلى االاستقرار في باريس لفترة معينة، عاود التواصل معها، ودعاها إلى إجراء بعض التجارب الصوتية لدى زيارتها العاصمة الفرنسية. وهذا ما حصل. يقول يارد: «عندما جاءت، قلت لها: سأعطيك نوتة البداية، ولن يرافقك إلا المترونوم. قدّمي الأغنية كما تشائين، وسأرى ما أفعله. فسمعتها وكنت منبهراً. وجدت أنها تتمتع بالموهبة وبشخصية أعطتني الرغبة في العمل معها. بعد مغادرتها، رحت أعمل على التسجيل وأقصّ المقاطع التي غنّتها وبدأت أبحث، وأردت أن أذهب بالأغنية الى مكان آخر. بدا لي أن مطلع الأغنية يشبه «بريلود» لباخ. فرحت أكتب للبيانو، ثم تركت مقطعاً للموسيقى الآلية البحت. في النهاية، كنت سعيداً بالتوصل إلى النتيجة التي بلغتها، وهو أمر لا يحصل بسهولة. وأسمعتها ما أتيت به، واتفقنا على أنها لن تكون تحية لأسمهان، بل أبعد من ذلك».
ومن هنا ولدت فكرة العمل على أغنيات جديدة. لدى عودة ياسمينة إلى جنيف، أرسلت له نص أغنية «داب قلبي». لم يكن قد عمل فعلاً على نص باللغة العربية. واستمرّ التعاون بين الكتابة والموسيقى لدى ثلاث سنوات. كانت أسمهان عذر البداية لإنجاز أمور أخرى. فضلاً عن «يا حبيبي تعال»، استعادا «ليالي الأنس في فيينا» و«دخلت مرة في جنينه» لأسمهان، والبقية تسع أغنيات جديدة. لم تكن الفكرة إنجاز ألبوم أو تقديم حفلة موسيقية، بل تبادل قصصهما المتشابهة، لكونهما غادرا لبنان في وقت مبكر. كانت تلك طريقة للعودة إليه، إلى بلد مختلف، لم يقدّم لهما إلا الأمور الإيجابية.
تشعر المغنية بالاستغراب عندما تقرأ نصوصها مجدداً، فتتساءل: «من أين أتيتَ بها؟ هناك كلمات جبلية. هي كلمات مدفونة في اللاوعي واضطررت إلى الاتصال ببعض الناس والتأكد من وجودها حقاً. كأنها كانت دفينة وظهرت على السطح الآن. يلومني الناس لأنني أتكلم بالفرنسية، ولكنني لو لم أفعل، فلن أكون حقيقية. فأنا سويسرية كذلك. والكلمات التي أستخدمها هي ربما تلك التي يقولها من لم يستخدموا اللغة لفترة. أحاول أن أتوجه إلى الجيل المسافر، لأن المهاجرين جزء من لبنان أيضاً. إنكار وجودهم بمثابة محو جزء من تاريخ لبنان. ثم إن المهاجر هو شخص واقع بين ثقافتين، لكنه لا يتبنّى إحداهما، بل يتحوّل إلى لون ثالث. وهذا ما أحاول التعبير عنه». يقاطعها يارد ليقول: «نملك هذه السهولة نحن اللبنانيين بتملّك الاشياء وإنجازها بطريقة أفضل». في ما يتعلق بالمزج بين الثقافتين الشرقية والغربية في الموسيقى والتجارب المتعلقة بها، يرى يارد أنه غالباً ما «تُستخدَم آلة شرقية لأداء موسيقى غربية، من دون أن يكون هناك تداخل حقيقي بين الثقافتين».
لم يكن العمل على المشروع سهلاً، نظراً إلى الانشغالات الكثيرة لكل من يارد وجنبلاط الخاصة، علماً أن الأخيرة اختصاصية في التحليل النفسي، ومتابعتها حالات صعبة منعتها في أوقات كثيرة من السفر والابتعاد عن المرضى. ولكن عندما أدركت أن المشروع بات جدّياً، توقفت عن تحديد مواعيد لمرضى جدد وأقفلت عيادتها في كانون الأول (ديسمبر) لتعيد فتحها في أيلول (سبتمبر)، بعد تسعة أشهر. عمل كلّ من جهته، وكانا يلتقيان مرة في الشهر لمدة أسبوع للمناقشة والتعاون وإعادة التوزيع. يذكر يارد: «أمضيت أكثر من ثلاثة أو أربعة أسابيع في العمل على «يا حبيبي». تدريجاً بنينا تسع أغنيات جديدة وثلاث استعادات لأسمهان».
فضلاً عن «يا حبيبي تعال»، يستعيدان «ليالي الأنس في فيينا» و«دخلت مرة في جنينه»


يأتي يارد بتأثره بمزيج من كل شيء، باخ، الجاز، دوبوسي، الموسيقى الشرقية. وبرغم كونه مؤلف موسيقى أفلام، فهو لا يشترط وجود صورة محددة أمامه للعمل: «أحتاج ألّا تكون الأمور واضحة، لأن الدقة لا تلهمني. وللمرة الأولى، أقول إن هذه الأغنيات هي خلاصة كل ما أعرف فعله. زهرة إلهامي. وصقلت صوت ياسمينة كما نفعل بالألماسة واعتنيت بها أفضل عناية».
من جهتها، بنت ياسمينة جنبلاط نصوصها على قصص من يحيطون بها: «أحب كثيراً مراقبة الناس في المطارات، وتخيّل ما يفكرون فيه. أضع نفسي في مكان صديقاتي لأعبّر عن حالات يمررن بها. هذا أسهل من الكتابة عن النفس، لأن التحفظ يختفي عندما نكتب عن الآخرين، ونسمح لأنفسنا بأن نحب بجنون ونكره بجنون. الحب كان حاضراً جداً وكتبت عنه في جميع حالاته».
بعد العرض الأولي في بيت الدين، هل سيقدّم الثنائي العمل في أماكن أخرى؟ يجيب يارد: «أرغب في القيام بجولة في أماكن عريقة، لأنه برنامج يستحق أن يُقدَّم في صالات مهمة. نحن محظوظون هنا لأن الأوركسترا الفيلهارمونية ترافقنا بالإضافة إلى 16 موسيقياً من الفرقة الشرقية وأربعة مغني كورال، بقيادة الاستثنائي ديرك بروسيه، وأنا أختبئ خلف البيانو (ضحك)».

* «لقاء على شرق جديد»: اليوم الخميس ـــ س: 20:30 ــــ «مهرجانات بيت الدين الدولية» ـــ للاستعلام: 01/349060