تتكرّر بعض العناصر في لوحات تمارا السامرائي (1977)، رغم أن التنوّع هو سمة تركيب مشاهدها وبنائها، حيث تقدّم لنا تفاصيل مختلفة تتوزّع على مساحة الكانفاس. تقترح الفنانة الكويتية فضاءً مركّباً ومتداخلاً في لوحات هي أقرب إلى لمحات تائهة، تختلط فيها الحشائش والنباتات مع الجدران والمقاعد والأعمدة والأسرّة. في معرضها الفردي الجديد «ما يطفو في الفضاء» أو «حجيرة» (يستمرّ في «غاليري مرفأ»/ بيروت حتى 13 آب/ أغسطس)، لا تزال تعتمد على الصورة كومضة، كذكرى عبثية أو كمادّة صلبة. بألوان الأكريليك والفحم، قد تشعرنا ضرباتها بأنها استعانت بمواد أخرى كالألوان المائية، وخصوصاً حين تحافظ على شفافيّة اللوحة، كاشفة عن المسار الذي مرّ به العمل قبل بلوغ حالته النهائية التي نراها.
Offering (أكريليك على كانفاس ــ 197×147 سنتم ــ 2018)

يجمع أسلوب السامرائي بين الاسكتشات السريعة، والتجريد، والدقّة أحياناً في نقل التفاصيل والملامح المكانيّة، والكتل اللونية المتضاربة مثل لطخات الأسود التي تغطي مساحات وافرة. هكذا لا تبدو تمارا ملزمة بالوصول إلى حالة نهائية مكتملة وحاسمة. تحرس هذا التيه والالتباس عبر نوع من شفافية اللوحة كما في عمل Offering الذي يتصدّر فيه تمثال لامرأة بلا رأس المشهد أمام جسد بشري أقل وضوحاً. تقوم هذه الشفافية على تخفيف ألوان الأكريليك وتفتيحها أحياناً لتظهر طبقات وخطوط أخرى، كأنها بقايا مشهد سابق استبدلته أو رسمت فوقه مشهداً آخر يحوي شراشف بيضاء وأرضية متماوجة ونباتات تنتصب في مقتبل اللوحة. تميل السامرائي إلى هذا النقص في أعمالها، كما في معرضها الأخير في «غاليري مرفأ» بعنوان «مد» (2016). في السابق، كانت قد أنفقت ذكرياتها وصورها العائلية في لوحات معرض «غيبة» (2011)، وقبلها في معرض «أوزان خفيفة» (2008) في بيروت اقتحمت عالم الطفولة بلا مهادنة أو مفردات بصرية أليفة.


أما الذاكرة هنا، فليست قائمة على فترة معيّنة، بقدر ما تأتي على شكل لمحات تطوف في الزمن والفضاء. وإذ تتعمّد ترك ممارستها في موقع قريب إلى المراحل الأولى من العمل الفني، فإنها تثير أسئلة أولى كثيرة تسبق مرحلة الرسم واكتماله على الكانفاس، من بينها خيارات الفنان لنقل مشهد بعينه، وما يبقى من هذا المشهد أثناء عملية الرسم نفسها. لا يزال التجريد حاضراً، وخصوصاً حين تمنح الكانفاس بمجملها لقطعة سوداء طويلة مرسومة بالفحم. يغذي التجريد مفهوم المخفي وغير المرئي.
الشكل الأسود نفسه سيطالعنا في علبتين سوداوين مصنوعتين من مادّة ستيروفوم، رغم معرفتنا بأنهما فارغتان ومجرّد هيكل خارجي. تشير الفنانة إليهما في مقابلة مرفقة بكتيب المعرض، أجراها معها لويك لو غال. خلف استديو السامرائي في باريس، ظلّت ترى هاتين العلبتين السوداوين لفترة طويلة، لتأتيا إلى رأسها مجدداً من دون إنذار مسبق. أما نقلهما إلى اللوحة وإلى الغاليري، فمن شأنه توفير مساحة من الخيال، لا للفنان فحسب، بل للمتفرّج الذي يصبح خياله اقتراحاً آخر للقطع. يجتاح الأسود لوحة السامرائي التي تركتها لفترة طويلة مشرّعة على البياض. يدخل كتنويع في بناء اللوحة، كاقتراح زمني بين الليل والنهار، أو كمقتطف من مشهد آخر، فيما يسيطر على اللوحة بكاملها كما في لقطة لنبتة خارجية في الليل يعطي التنويع اللوني وكثافته (الأحمر والأصفر والبرتقالي...) انطباعاً سحرياً.
يجتاح الأسود اللوحة التي تركتها لفترة طويلة مشرّعة على البياض

أكثر ما نراه هو الغياب الذي تنجح الفنانة في نشره وترسيخه في مساحتها المكانية الغبشة أحياناً. الشراشف والأسرّة والزوايا، مقابل حضور بشري يقتصر على أجساد نائمة ومستلقية. النوم هو السمة الرئيسية للشخوص، لكنه صفة الغياب الأخرى، أو الوضعيّة الأقرب إليه، وخصوصاً حين يخلو السرير ويختفي الجسد تماماً من اللوحة.

* معرض «حجيرة» لتمارا السامرائي: حتى 13 آب (أغسطس) ــــ «غاليري مرفأ» (مرفأ بيروت). للاستعلام: 01/571636



«انقلاب» روي سماحة
ليست المرّة الأولى التي تدعو فيها السامرائي، روي سماحة إلى المشاركة في نوع من الحوارية مع أعمالها. في معرضها السابق «مدّ» (2016) في «غاليري مرفأ»، علّقت تمارا رسالة للفنان اللبناني الذي دعته مجدداً هذه المرّة إلى المشاركة بعمل «يوميات فيديو» الذي سيعرض بدءاً من السابعة من مساء الغد، ويستمر عرضه حتى التاسعة. هكذا تفتح أعمال معرضها الحالي على مشاهد ولقطات الفيديو، ومتوالياته المشهديّة من خلال عمل سماحة. يضمّ تجهيز الفيديو، شريطَي فيديو دمجهما سماحة، وهما حصيلة مشاهد صورها على هامش عمله كصحافي بين عامي 2004 و2007، محاولاً التقاط الوقت الميت حيث تغيب الأحداث.