شكيب خوري *ألو،أُنسي؟
شكيب خوري
- مرحبا أُنسي،
يا عاشق السَّهر.
هيدا اليوم هو الواحد والثلاثون من كانون الأوَّل. خَفّ البرد. يلا نمشي بحارات الأشرفية، في شمس. بعرف. بتحب شمس الظهيرة. بتخلصَك من أَرَق نص الليل وكوابيس النهار. باستمرار بتذكَّر لمّا تلفن لك عند الصبح وتكون بعدك نايم، تْـبَـحْبِش، وعيناك غـفْيانِه، عَ سمّاعة التلفون.

ويرنُّ الهاتف:
- مين؟
- شكيب.
- آ، شكيب؟
- مقالتك اليوم رائعة. «كلمات كلمات كلمات» منّها مجرَّد كلمات مألوفة. من وين بيجي هاالجديد؟ وين بتتصيَّدُ الـمُدهش؟
- من العذاب. الخوف. الجذور اللي عَمْ تضمر عَ إيقاع الصواريخ.
- بعتذر، ازعجتك.
- تقلَّصت ساحات اللقاء. منشرب قهوة بساحة ساسين.
وتَـلْـتَحِف غِطاءَ السّرير ناشداً قليلاً من الرّاحة والسّكون، أو ربّما الفرج.

-2-


وصلتُ إلى الموعد وكان أُنسي يجلس على طاولة يفصلها زجاج المقهى عن الرصيف. عيناه ذابلتان. ابتسمتْا عندما رأتاني. لكن سرعان ما عادتا إلى الصَّمت المذهل. سألته:
- في شي زاعجك؟ صار شي؟ عَـيْـلْـتَـك بخير، أُنسي؟
- آي صار.
- خير. شو صار؟
- أنا يائس. هاالحرب بين شرقية وغربية دمَّرت إيماني بفرادة بيروت.
تقلَّصت ساحات اللقاء، ساحات الإبداع. ما بقى في طرقات سالمة، مسرح، ندوات فكرية؛ نور النّهضة اللبنانية تحوَّل لدم. سيطر الدم بلونه الداكن عَ لوحات التشكيليين، شخصية العمارة اللي ميّزت مدننا، ضيعْـنا تدمَّرت، البرج امّحى. كل هاالأزقة القديمة اللي ريحتها أَنعشت رئتي زالت معالمها. لازم فِـلّ. پاريس غربة بس، ربّما، بتكون العلاج... الأمل بدل اليأس.
وسافرت. وكنت كل ما زور پاريس، تَـلْـفِن لَـك. وعادت حليمة لعادتها
القديمة:
- صباح الخير.
- ألو ... مين؟

-3-


- بعدك نايم؟
- آ. شكيب، أهلا. أيمتى وصلت؟
ويكون موعد ولقاء. وبين الإثنين، يا أُنسي، كنت أتذكَّر انطباعات بعثتها علاقتنا. أولاً، حَياؤك الصّارخ عندما كنتُ أسدِّدُ ما يتوجَّب عليَّ دفعه لك لقاء ترجمتك لمسرحيتي «رومولوس الكبير» و«الصَّيف». نعم. حَياؤك كان يشعرني بأني أرتكب غلطةً مميتة مع صديق. نفسك كبيرة، يا أُنسي.
ثانياً، مَيْلُك... أو شغفٌ مكبوتٌ للتمثيل لديك. عبَّرتَ عنهما عندما طلبت مني أن أُسندَ إليك دوراً في مسرحية «رومولوس الكبير». واستجبت لرغبتك. وكيف لا. كانت سمعتك الشعرية والأدبية مكسبـاً معنويـاً للفرقة. وانطلقت ورشة العمل. وبعد بضعة تمارين، قرّرتَ الانسحاب. لأنَّ مشاغلك الإعلامية والأدبية لا ولن تسمح لك بتكريس الوقت الضروري لتحقيق «الممثِّل» فيك. كان صوتُك ينبض بالحزن. يومها خسرتُ والممثّلين رحابةَ صبرك وغنى ثقافتك. وحُرِمْتَ أنت تحرير خاصية إبداعية في ذاتك المتعدِّدة المواهب. ولنعد إلى الحاضر. سأجتمع بك قريباً، وآمل أن يتوقَّف غدرُ السيّارات المفخَّخة. إنها الموتُ المتربِّص بنا. على كل حال، عندما نلتقي، سأطرح عليك سؤالاً بدأتْ أجراسُه تطنُّ في رأسي منذ تعرّفت إلى حفيدتك لارا:

-4-


- هل انتقلت جينَةُ التمثيل فيك إلى حفيدتك البارعة لارا بو نصار؟ معها تجدَّدت لقاءاتي معك. البذرة الأصيلة تنمو وثتمر برفقة الجذور. وبكل عفوية رحت أراجع علاقة الممثّل الكائنة فيك بالترجمة وخاصةً للأعمال الدرامية. سطع صدق ترجمتك لمسرحية «الصَّيف». وأدركت توأمة شاعرين: أُنسي الحاج ورومان ڤينغارتن في عمل واحد. لمّا لغة الشاعر الـمُترجِم بتجسِّد رؤية شاعر أجنبي وبتكشُف عن المستتر بين السطور والموسيقى اللي فيها، وبتتصيّد المعنى الصحيح وبترسم دلالات الطبيعة والحيوان... لـمّا لغة المترجِم بتنقُش النص بإزميل مايكل أنجلو ساعتها بتتوحَّد المعاني وبتظهر الرموز والأحاسيس وشفافيّة البلّور. كل هاالعناصر ساهمت، يا أُنسي، برؤيه إخراجية لـ «الصَّيف» جسَّدت الحلم والشاعري. فجاء العرض أثيرياً متل «باليه» ... وهيك زميلك نزيه خاطر وصف الإخراج.
اسمح لي بأن أكشفَ لك أيضاً عن تجربة لي كنتُ قد أخفيتُها عنك وعن رفاقنا: ذهبت إلى الفريكة لحضور حفل يحمل اسمك. جلست بين الحاضرين أنصتُ إليك تلقي شعرك، وأتخيّل صوره. وفجأةً أرى ريشةَ أمين الريحاني تمتلىء حبراً وشعرُكَ منها ينسابُ. اقترن الشاعر العريق مع الفيلسوف الأصيل. وفيما أنا مستسلم لهذه الرؤيا، أسمع من القبو العتيق المجاور، خوابي النبيذ تهلِّلُ.
هاالذكريات، يا أُنسي، بتفاجئني متل البرق اللي بيسبق الرَّعد وبفرح. ومع

-5-


طلوع الشمس بنط عَ التلفون تَـ عبِّر عن إعجابي المتجدِّد بزهورك اللي عَمْ تولد عَ صفحتك. وفوراً بسمع صوت إيدك عَمْ تْبَحْبِـشْ عَ سمّاعة التلفون وإنت بعدك نايم، وبأجّل الإتصال. وبصير شَـبِّه أفكارك بلمعان البرق، وشَـبِّه دعساتك السَّريعه وإنت لابس الكبوت بصوت الرَّعد.
بعدنا شباب، يا زَلـَمِه. السيارات المفخَّخة ما رَحْ تغلب إرادة الحياة. والساحات رَحْ يزيّنها إبداع ولادنا وأحفادنا. وإنت أنا، إلنا ساحتنا وعليها رَحْ يرقص المستقبل اللي كنا نخطِّط أهدافه وبعدنا مننشده.
«الإرادة ولادة دايمه»، ما هيك كنت تقول؟
* مسرحي وروائي لبناني