السلسلة الأميركية – البريطانية القصيرة عن حادثة المفاعل النووي السوفياتي تشيرنوبيل (في أوكرانيا الحالية) تروي نسخة خيالية بنسق هوليوودي محض لأحداث كارثة ليلة 26 نيسان (أبريل) 1986 التي كانت فاتحة النهاية الحتميّة للاتحاد السوفياتي. مع ذلك، فالعمل تحفة فنية يطرح قراءات على مستويات مختلفة تدين الإمبراطوريّة الأميركيّة ذاتها قبل أيّ أحد آخر بوصفها أنموذج الدولة العظمى وقد تقمّصتها الأيديولوجيا، وتحوّلت صناعة الأكاذيب فيها إلى وقود تشغيل لهيمنتها على البشر.«تشيرنوبيل» حادثة فاصلة في التاريخ البشري، لكنّها تماماً - كما موقع المفاعل النووي الذي تعرّض للحادثة المؤسفة ودفن تحت أكوام من الإسمنت والحديد ــ ما زالت غارقة بدورها تحت أكوام من أنصاف الحقائق، وبروباغندا مرحلة الحرب الباردة، والسياسة السوفياتية العقيمة في إدارة إعلام الأزمة حينها حتى لتبدو كأنّها ثغرة في التاريخ أكثر منها مرحلة مهمة لا بدّ من التمعن فيها لفهم عالمنا المعاصر وأخطار المستقبل المتروك بإدارة قادة متشبعين بالأيديولوجيات، ديدنهم الكذب والتلفيق وسقف خبرتهم إنتاج عروض تلفزيون الواقع!
غياب سردية تاريخية محددة عمّا حدث ليلة 26 نيسان 1986 في المفاعل رقم 4 في «تشيرنوبيل» رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً، فتح الباب لماكينة هوليوود الجبّارة بالولوج من الباب الخلفي وتقديم سردية مختلقة متخيّلة عن الحادثة بأفضل أدوات العمل البصري التي تمتلكها. سرديّة ستحتل للأسف ذاكرة الجيل الشاب المعاصر الذي لم يعش تلك المرحلة وقد لا يعي أبعادها وليس لديه الاهتمام أو الوقت للقراءة في مصادر متوازنة عمّا حدث.
HBO الأميركيّة بالتعاون مع شبكة Sky البريطانيّة قدّمت تلك السرديّة من خلال سلسلة قصيرة في خمس حلقات (حوالى 70 دقيقة لكل حلقة) ونجحت ـــ رغم عرضها في أجواء التشبع التلفزيونيّ ما بعد عرض الموسم الأخير من «لعبة العروش» ــ بالقفز إلى تقييم 9.7 على موقع IMDb المتخصص، وهو أعلى رقم حصل عليه مسلسل تلفزيوني على الإطلاق، متفوّقاً حتى على سلسلة «لعبة العروش» ذاتها التي اعتبرها كثيرون الظاهرة الاستثنائية في تاريخ التلفزيون.
ما بين خيال المخرج (السويدي) يوهان رينيك، ونصّ صانع الأفلام الأميركي كريغ مازين، لدينا في «تشيرنوبيل» عمل درامي من الدرجة الأولى يأخذ المتلقي عنوة منذ اللحظات الأولى ويغرقه في تتابع أحداث أشبه بكابوس يحبس الأنفاس ليعود ويوقظه بالحقيقة المبهرة عن المعنى الأعمق للحادثة التي كادت أن تتسبب في مأساة أكبر بكثير لو لم ينجح السوفيات في تداركها ولو متأخرين بعض الشيء. عبقرية العمل ليست مقتصرة على بنية الحلقات التي تبدأ من النهاية (من لحظة انتحار العالم السوفياتي الذي قاد جهود احتواء الحادثة) وتعود بنا بعدها رويداً لفهم البدايات، أو تلك الاستعادة الذكيّة وغير المسبوقة في دقّتها لأجواء الثقافة والزمان والمكان في الاتحاد السوفياتي وقتها أو حتى ذلك التلاعب المحترف بالموسيقى والصمت والأصوات على نحو جعلها خادمة للنص لا قائدة له كما في معظم الأعمال الهوليوودية... بل هي تمتد إلى تقديم قراءات متقاطعة لذات النص تعتمد على إدراك مشاهدها أكثر من أيّ شيء آخر. فـ «تشيرنوبيل» يمكن أن يُقرأ كدراما تاريخية (بالتأكيد ليس فيلماً وثائقياً)، أو ملحمة خيال علمي متجذّرة في الواقع كما يليق بكل عمل خيال علميّ ناجح، أو فيلم رعب من الطراز الأول، أو حتى قصة سياسيّة بليغة تدور رحاها في أروقة الكرملين وقاعات المحاكم. وفي بعد آخر، يمكن أن تراها منتج بروباغندا أميركياً آخر معادياً للاشتراكية وللأمة الروسية، أو نقداً عميقاً للدولة الأميركيّة العميقة عبر إدانة تأدلج سياسييها ومناهج تكاذبهم التي لم تعد تخفى حتى على المواطن الأميركي العادي المغيّب، أو ربما هجوماً مبطناً على النخبة الرأسماليّة التي تحكم العالم اليوم، وتأخذ بزمام الكوكب إلى الدمار الأكيد، أو ربما مزيجاً شخصيّاً من ذلك كلّه. مذهل بالفعل.
السلسلة تخلط أسماء شخصيات سوفياتية حقيقية وأحداثاً تاريخيّة فعليّة بكمّ هائل من التلفيق الدرامي الذي لا عيب فيه بالطبع عند تقديم عمل لا يدّعي التوثيق من حيث المبدأ، مع تبسيط مخلّ وشخصنة مبتذلة للحالة التاريخيّة وفق النموذج الأميركي الساذج للبطل الفرد، على نحو يجعلها غير صالحة على الإطلاق لفهم ديناميكية العمل السياسي في المنظومة السوفياتيّة (حيث الغالب مزاج تجنّب المواجهة لا المواجهة)، أو الدور البطوليّ للعلماء والجنود والإطفائيين والعمال السوفيات في التعامل مع الكارثة وما تسببت به، أو ثقافة الشعب في إطار الاتحاد السوفياتي البائد (لم تدر الدولة السوفياتية أبداً بالتهديد بإطلاق رصاصة في الرأس منذ ثلاثينيات ستالين السوداء)، ناهيك عن عجز الممثلين البريطانيين بلغتهم الإنكليزيّة المفعمة بالتعابير والتظاهر والديبلوماسية عن تقديم شخصيات روسية مقنعة للجمهور الروسيّ – على الأقل - المعتاد على لغة تعبير مباشرة وغير مراوغة.
وزارة الثقافة الروسيّة استدعت إحدى أهم شركات الإنتاج الروسيّة ومنحتها ميزانية خاصة لدعم إنتاج رواية روسية عن الحادثة


لا بدّ من الإشادة بالأداء الفنيّ المتألق لنجوم العمل المتطلّب بمجملهم، لا سيما الشخصيات الرئيسة الثلاث: جارد هاريس في دور العالم السوفياتي الكبير فاليري ليغاسوف الذي قاد المجهود العلميّ لاحتواء الكارثة، وستيلان كارسغارد بدور نائب رئيس الوزراء السوفياتي الذي أدار جهود احتواء الكارثة من الناحية السياسية في إطار الدولة، وإيميلي واتسون بدور عالمة الفيزياء النووية يولانا خوميوك وهي شخصية مختلقة أرادها كاتب نص السلسلة رمزاً لجهود مئات العلماء الروس الذين شاركوا في مواجهة الكارثة وربما أيضاً لإدخال عنصر نسائيّ في معادلة غلبة الرّجال على الشخصيات الرئيسة في القصة. لكن العمل متخم بنجوم آخرين خلقوا مع الشخصيات الرئيسة مشاهد لا تُنسى ومواقف أقرب للشعر منها للسينما. خذ مثلاً زعيم عمّال المناجم الذين استدعتهم السلطات لشق نفق تحت المفاعل وتدعيم قاعدته الإسمنتيّة لحظة مواجهته لوزير التعدين، أو مشهد الزوجة الحزينة وهي تكذب على زوجها رجل الإطفاء الذي أصيب في الحادثة وكان يعيش لحظاته الأخيرة عمّا تراه من نافذة المستشفى رقم 6 في موسكو، أو عندما تطوّع ثلاثة من الفنيين في المفاعل للقيام بمهمة تقضي بفتح مضخات الماء تحت المفاعل رغم معرفتهم بأنهم سيموتون لا محالة. مع ذلك، ففي العمل أيضاً سخافات (إقحام صور الزعيم لينين على نحو كاريكاتوري في مفاصل العمل، ولينين عدّو الأميركيين التاريخي الأول وكراهيته عند نخبهم تفوق حتى كراهيتهم لماركس نفسه) وكليشيهات ثقافيّة فارغة (المسؤول السوفياتي السكّير الذي يتناول الفودكا في مقر عمله)، وغيرها من الهفوات التي لا يكاد يخلو منها عمل أميركي عن روسيا أو الروس ولم ينجح الثنائي رينييك – مازين بالتحرر منها.
هناك أيضاً مشاهد رعب وتوتر كثيرة على نسق هيشكوكي – إذا جاز التعبير – لكن أكثرها رعباً كان اجتماع القيادة الإقليميّة للحزب بعد الحادث مباشرة حيث الجميع يحاول إسكات التساؤلات والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام، وأنه لا بدّ من إبلاغ موسكو بأن الحادثة تحت السيطرة وذات تأثير محدود. هنا يقف زاركوف المسن القائد المحلي للحزب والدولة أمام الاجتماع ملقياً خطاباً يلخّص ثيمة السلسلة: «يجب أن نعزل المدينة، ونقطع خطوط الاتصال ونمنع مغادرة أي شخص لأي سبب. يجب أن نوقف انتشار الأخبار المضللة والمسيئة. هكذا فقط يمكننا أن نمنع الشعب من الإساءة لمنجزاته الوطنيّة». هذا الاجتماع يلخص مسار تجربة بشريّة متكررة: عندما تنتهي المؤسسات والتنظيمات جميعها بعد فترة أولى نقيّة وفيّة للمبادئ إلى أجهزة غاية همها حفظ ذاتها ونظامها العقيم ووحدتها الداخليّة ولو على حساب الأشخاص الذين وجدت تلك المؤسسات والتنظيمات لخدمتهم، وهذه ليست بالطبع مقتصرة على الجانب الروسيّ وحده. بل إن أشهر حالات العمى الانتقائي هذه التي تحدث في إطار التوافق الجماعي على الأفكار مسجلة لصالح القيادة الأميركيّة المحيطة بالرئيس كنيدي أثناء أزمة الصواريخ الكوبيّة التي كادت أن تأخذ العالم إلى محرقة نووية كبرى (راجع الكتاب المشهور عن Groupthink للأميركي إرفيينغ جانيس).
باستثناء التروتسكيين الذين وجدوا في «تشيرنوبيل» تحققاً بصرياً لنقد زعيمهم المنشق الأكبر لمنظومة الدولة الستالينيّة، فإن معظم النقاد الروس واليساريين نشروا قوائم طويلة بالهفوات التاريخية والشكلية في السلسلة، وهي عندهم لا تغتفر وتعبّر عن النظرة الاستعلائية الأميركيّة في هوليوود التي «لا يمكنها إلا أن توجه الإهانة تلو الإهانة للشعب الروسي وللتجربة الاشتراكية بداع دراميّ أو من غير داع». مع ذلك، فقد أشاد جلّهم بحرفيّة العمل، واعتبره بعضهم ضربة معلّم مبدعة للبروباغندا الأميركيّة، مستغربين تجنب المخرجين الروس إلى اليوم تقديم عمل يروي أحداث 1986 من وجهة نظر محليّة بدل انتظار الأميركيين. وللحقيقة، فإن وزارة الثقافة الروسيّة فور علمها بشروع HBO بإنتاج «تشيرنوبيل»، استدعت إحدى أهم شركات الإنتاج الروسيّة ومنحتها ميزانية خاصة لدعم إنتاج رواية روسية عن الحادثة. وبحسب مصادر متقاطعة، فإن هذا العمل أصبح الآن في مراحل ما بعد الإنتاج وربما يعرض قريباً، وسيتمحور حول دور محتمل لجاسوس أميركيّ- تؤكد بعض المصادر التاريخيّة أنّه كان مزروعاً في قلب إدارة المفاعل السوفياتي وربما يكون وراء التسبب في الحادثة، ويروي قصة فريق من المخابرات السوفياتيّة يعمل جاهداً لتحديد هويّته والقبض عليه.
مهما يكن من أمر، فإن حادثة تشيرنوبيل على فداحة المناخ السياسي الخانق في الاتحاد السوفياتي الذي جعلها ممكنة من حيث المبدأ، تبقى من جهة أخرى إنجازاً للأمّة الروسيّة عبر تلاحم وشجاعة تليق بالأبطال، فأنقذت العالم من كارثة كادت أن تكون مأساة تامّة، وتلك ربما كانت أهم من دورها ـ المُكلف للغاية ـ في هزيمة المشروع النازي الفاشي خلال الحرب العالميّة الثانية. ولذا فإن أفضل ردّ على سلسلة «تشيرنوبيل» بنسختها الأميركيّة ربما يكون مسلسلاً بالكفاءة البصريّة نفسها عن «هيروشيما»، حيث لم تكن المأساة النووية نتيجة خطأ فنيّ وسوء إدارة، بل قراراً إجرامياً واعياً اتخذته عصبة من البشر القتلة المهووسين وشاركت في تنفيذه ودعمه قطاعات واسعة من النخبة والمجتمع الأميركي معاً. فلا يستويان!