شوقي بزيع * مات أنسي الحاج. هكذا قالت الصديقة المتصلة عبر الهاتف، قبل أن تطلب إليّ أن أرثيه بما تيسّر من الكلمات. لكن ما أنا بصدده هذه المرة ليس نبأ موت عادي لأُطرق قليلاً في المعنى الساخر للحياة، ثم أدبّج مرثية في رحيل الشاعر سبق لي أن كتبت مثيلاتها من قبل. فالموت الآن ليس حدثاً يأتي من الخارج لكي أدرأه بالكلمات أو بالأيدي، بل هو يندلع من الأقلام الصغيرة للروح تاركاً للجسد أن يصاب بالشلل، وللغة أن تسقط في الهذيان. صحيح أن أنسي كان منذ سنوات يعاني من مرض ما، كان صاحب «الرأس المقطوع» حريصاً على إبقائه طي الكتمان، ولكن الصحيح أيضاً أن أحداً لم يصدق أن هذا الرجل الاستثنائي في جبروته ورقّته يمكن للموت أن يأخذه غيلة، وللحياة التي منحها كل ما يملك أن تسحب البساط من تحت قدميه. قيل عنه الأنقى، وقيل عنه الساحر، وقيل عنه الأمهر، وقيل عنه القديس الملعون. وكل ذلك صحيح بالطبع، وهو فوق كل ذلك الذكي اللماح، والماكر على بشاشة، والذي يشيع أينما حلّ فرحاً في الاماكن وجلسات الأنس قلّ نظيره.

وهو الشاعر والناثر والمحرر ورئيس التحرير. وهو الذي رتّب في ضوء حضوره وجودنا على الأرض، وعلاقتنا باللغة ونظرتنا الى الجمال. وانتظرنا دائماً ضحكته لكي نضحك ودموعه لكي نبكي، وشكواه لكي نتبرم بالواقع، وعشقه لكي نتدرب على العشق، وتواضعه لكي نتخفف قليلاً من أحمال الصلف والادعاء. ولم نكن نعلم أن كل هذه الحيوات التي عاشها كثيرة على رجل واحد، وأن ثمة شيئاً كالموت يهيّئ لذلك الجبين المرفوع الشرك الذي لا فكاك منه، والعثرة التي سترديه في نهاية الطريق. كيف لأحدنا أن يتصوّر لبنان بلا أنسي الحاج. منذ عقود ستة تقريباً وهو يعمل بدأب النساك وصبرهم على ترميم الحدود الفاصلة بين ما سمّي المعجزة اللبنانية المتصلة بشهوة العيش وألف الإبداع ورحابة التنوّع الأهلي، وبين العجز الذي يقارب الشلل عن إيجاد ظهير سياسي ورسمي لذلك الحلم الفردوسي الذي يتمّ وأده والتضحية به كلما آنس طريقاً إلى التحقق. كأن أنسي هو التجسيد الرمزي للمقال اللبناني الأعلى الذي شكّلت مجلة «شعر» في الخمسينيات والستينيات نواته الجمالية وعموده الفقري. إنّه فينا بقية ذلك العالم الذي كادت تطمسه نذالات السياسيين وسعار الطوائف المتناحرة وانغلاق العقول المتطاحنة على تحجّرها.
ومن دونه لا يمكننا قراءة المعنى اللبناني، ولا قراءة معنى التنوير، أو روح بيروت، أو نهوض الحركة المسرحية، أو فتنة شارع الحمرا، أو الصعود المباغت للمسرح الرحباني الغنائي. ومن دونه لم يكن صوت فيروز ليجد، على روعته، من يحيطه بكل ذلك الخشوع الابتهالي.
كيف لأحدنا أيضاً أن يتصوّر الشعر والنثر بلا أنسي الحاج. فهو أحد الروّاد المؤسسين، لا في اجتراح قصيدة النثر العربية فحسب، بل في تخليص اللغة العربية السائدة من ترهّلها وميوعتها وجنوحها إلى الإنشاء والإطالة. وهو الذي «فخّخ» الشعرية القديمة، لا بالديناميت القاتل والماحق، بل عبر تقويض الأسس الموروثة للذائقة الجمالية وخضّها بعنف توليداً لما تختزنه من احتمالات جديدة وخيالات غير موطوءة. وحين تشعر أنّ المجازفة في «لن» و«الرأس المقطوع» قد بلغت التخوم التي لا تفضي إلى غير الصمت والعدم، كما حدث لمالارميه من قبل، أعاد أنسي اللغة إلى مرمى القلب وحقنها بأوصال الأنوثة والحب البريئين من شبهة التكلّف والإبهام، كما هي الحال في «ماذا صنعت بالذهب/ ماذا فعلت بالوردة» و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع». ومرّة بعد مرّة كان الشاعر يؤاخي بين صراخ الوحوش في البراري وبين تنهدات الفراشات في الحقول، ويوائم بين شهوانية نيتشيه وجموح زوربا وطهرانية ريكله وعذوبة «نشيد الإنشاد».
أما في النثر، فقد تخفف أنسي من كل أثقال الشعر وضروراته لكي تنبجس كلماته كالينابيع من جوف العالم، ولكي تلتحم بالحياة التحام الشجرة بنواتها، دافعة كهرباءها الغامضة إلى إصابتنا برعشة المفاجأة أو بنشوة الافتتان.
لكن من أتحدّث عنه الآن قد مات، وخلَّى لنا بلداً كسيحاً وقاسياً ومهيضاً وخاوياً على عروشه. ورغم كثرة معارفه، فإنّ قليلين هم الذين عرفوه عن كثب.
القليلون وقفوا على قراءة تلك الكاريزما النادرة التي امتلكها، والتي تضافر على صنعها وجهه الوسيم، وجبهته العريضة المرفوعة، وعيناه الطامحتان بالرغبة والحنو، وضحكته التي كانت تفيض عن حاجة الفرح والفكاهة المجروحين، لتصيب بعدواها بلاداً كاملة من البؤس والتجهّم والشقاء. قليلون وقفوا على تواضعه الجم، وأناقته البسيطة التي لا يحسن تقليدها الملوك، وعلى الخجل الذي يعتريه كلّما باغته مديح مفرط، وعلى الأنفة التي يبديها إزاء الجوائز والمناصب وحفلات التكريم. والآن وأنا على مرمى دمعة حارقة من غيابه أتساءل إذا ما كان أنسي الحاج مصنوعاً كسائر خلق الله من لحم ودم مجردين أم من غيوم بيضاء شرَّدها نسيمٌ فوق غابة من أعاصير.
* شاعر لبناني