ربما سيصير «أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني» الذي أطلقه «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» و National Endowment For The Humanities قبل أيام بالشراكة مع مكتبات الجامعة الأميركية في بيروت، واحداً من أهم المراجع الأنثروبولوجية أهمية لقراءة التاريخ الفلسطيني. لكنه بصورته الحالية أحد أهم أشكال المقاومة أيضاً. مقاومة الذاكرة لنفسها ومقاومة الصمت بالصوت. مئات المقابلات مع اللاجئين إلى ذاكراتهم، ليثبتوا أن كلّ شيء يمكن أن يتعرض للاهتزاز، إلا الحقائق المطبوعة في مكان دافئ من القلب.لوقت طويل، جادل توماس طومسون في أن التاريخ الفلسطيني وتاريخ القدس لا يمكن أن يُكتب خارج التراث. بمعزل عن السجال الذي أحدثه طومسون، لا بد من الاعتراف بأهمية التراث كمصدر ينتمي إلى مشتقات التاريخ. وفي هذا الإطار، يمكن أن يتموضع «أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني» الذي يتجاوز التراث إلى التاريخ نفسه. إنه نتاج عمل بحثي طويل، بدأ كفكرة فردية، وتطور حتى استوى على ما هو عليه. هذا العمل بالدرجة الأولى هو عمل أنثروبولوجي، يقدم مادة إثنولوجية ثرية للمهتمين. وإن كنا كفلسطينيين لا نحتاج إلى إثباتات تاريخية ضدّ الاستيطان الكولونيالي، فنحن بحاجة إلى التحدّث ضد الصمت... لأن نتذكر، ضدّ السرديات المخترعة. لوقت طويل ما انفك كثيرون ـ لا سيما من اللبنانيين ـ يردّدون السردية التافهة التي روج لها الاحتلال عن بيع الفلسطينيين لأرضهم. والذين يضحكون على أنفسم ويصدقون هذه الرواية، عليهم أن يشاهدوا اللاجئين وهم يضحكون عليهم. القصص في «الأرشيف الشفوي» تتقاطع على اختلافها، لتأكيد السردية الفلسطينية الوطنية عن الأرض والتاريخ.
القصص تحكي عن نفسها أكثر مما يحكي المتحدثون عنها. في المقابلات الطويلة، يلتقط اللاجئون أنفاسهم من القرى التي غادروها، وأحياناً من المدن العامرة بالمحبة. الألفة للتاريخ قبل النكبة والمرارة للحاضر واللجوء. يشردون في زمن بعيد. يأكلون أصابعهم ليتذكروا، ولا يندمون. يتعبهم التذكر ولكنه يفرحهم. ولد محمود زيدان في عين الحلوة بعدما تهجر من الصفصاف. وزيدان هو أحد المساهمين في توفير مواد أرشيف التاريخ الفلسطيني. «التاريخ الشفوي الفلسطيني قد يكون التاريخ الشفوي العربي»، يقول في معرض حديثه عن المشروع المشترك مع ديانا آلن، صاحبة الفكرة. قد تكون ملاحظة مبالغ فيها، لكن في السياق الذي وردت فيه، ربما تكون صحيحة. لا أحد يمكنه أن يتحدث عن تاريخ فلسطين أفضل من الفلسطينيين.
تحضر في الشهادات المرأة والآخر، كما يحضر الفولكلور والمقاتل اللبناني


أشياء كثيرة في المخيّم لجأت مع اللاجئين. الجغرافيا وصلة الدم والسهرات والحارات. كل شيء يجعلك تكتشف أن القصص تُنقل مع أهلها. هل يمكننا أن نسمي هذا تاريخاً أو تأريخاً؟ التسمية ليست مهمة. زيدان مثلاً كان يعرف بيوت الصفصاف كما يعرف بيوت وأزقّة المخيم. القصص تتداخل بلا تكلف. يسرد قصصاً تبدو غريبة، لكنها حدثت في الصفصاف، وسمعها في عين الحلوة. حادثة البركة المقسومة بالخيط، وحادثة الماعز المسروق. في النهاية، الزمن ليس أياماً تتراكم لكي تصير شهوراً وسنوات، إنه شيء خارج التصور. إنه ما هو عليه. كان يسمع عن مصابين في المجزرة: مصاب ويتيم وتاريخ شفهي لا يحتاج إلى الأسئلة. إضافة إلى ذلك، كان في المخيّم صور هرّبها أهلها معهم. لم يكن في حسابات المحتلين أن تتحدث الصور التي تأتي من حيفا وعكا وتعلَّق في صدر الصالون أو تُحمل في الجيوب. أصحابها يعتبرونها صوراً لاجئة بدورها. تطوف مع أهلها وتتعرض لما يتعرضون له. تمسكوا بالصور، لأنّ أحداً لم يطلب منهم أن يتحدثوا. للإنصاف التاريخ المكتوب ليس مغمض العينين تماماً. إيلان بابه، وفي معرض تذكره فلسطينيي 1948 من أنقاض النكبة وصولاً إلى اضطهادهم المتنامي في أرضهم، عاد إلى الصور الفوتوغرافية التي التُقطت في 1949. في تلك الصور رأى الفلسطينيين مذعورين ومجبرين على التكيف مع التحولات في المكان. الآن بات ممكناً أن يُرى «النيغاتيف» بلا تدخلات من الضوء والظلال. أصحاب الصور وهم يتحدثون.
تتوزع الشهادات في أكثر من سياق. فالشهادات التي جمعها «مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية (الجنى)» مثلاً، وهي عشرون شهادة، تحضر فيها المرأة ويحضر فيها الآخر، كما يحضر الفولكلور والمقاتل اللبناني الذي ذهب إلى فلسطين قبل أن يأتي الفلسطيني إلى لبنان. فهناك جنى الملقبة بأم عثمان من حارة الدير، الطيرة. وهناك تجارب عن الأطفال حين اختبروا الحرب في 1948. تحضر المرأة الفلسطينية المقاتلة. يحضر اليهودي مليخا، كشاهد على حضور العرب اليهود، وبعضهم كان تقدمياً. ويحضر الصديق ابو درويش ذهب من لبنان ليقاتل في فلسطين، وتمرّ عتابا لأم خليل «يا بلدنا ليش هجرتينا». وهناك أيضاً تغريبة أحمد ومريم، والناجين من مجزرة الذين مات جميع أولادهم، ولم يكن ما يجعلهم يبقون على قيد الحياة إلا وجودهم بين من هم مثلهم. الذين نجوا من المجزرة بدورهم. وفي أي حال، لا يمكن فهم الاجتماعي إلا بما هو اجتماعي. والشهادة الشفوية تأريخ للنضال الفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني وضد الاستيطان الكولونيالي الصهيوني، وإضاءة ضرورية على ما أهمل لوقت طويل: نضال المرأة.
الشهادات لا تنتهي. والوقت لا ينقضي. جاء الاجتياح وجاءت حرب المخيمات. أحلام الهجرة عُلِقت إلى جانب صور الشهداء. لكنّ «الكبار حافظوا على الشعارات الأولى». مريم محمود أسعد ولدت قبل النكبة. غادرت وعمرها 15 عاماً. كان أهلها فلاحين، لكنها تتذكر المنزل... «باب بيفتح للغرب باب وللشمال وباب للشرق». تتباهى بمنزلها الذي هو روحها. تتباهى بذاكرتها: «كنا قريبين من يارون وصلحا وكفربرعم». فاطمة أحمد منصور ولدت في 1926، وهي من الراس الأحمر. لكن زوجها كان يذهب إلى صفد فصادت كنيته «الصفدي». أخوتها جميعهم ماتوا. شقيقها مات عندما هبط عليه منزل. وقد رأت بنفسها كيف فجّرت العصابات الصهيونية المنازل: «30 بيت بكبسة زر». نسفوا بيوت الحارة الشمالية بالديناميت. لكنهم لم ينسفوا ذاكرتها. وقد أقامت في هذه الذاكرة جسراً بين الماضي والحاضر. أحد الأشخاص من قريتها تزوج من علما... «لكن علما ليست بعيدة، مثل المسافة بين المخيّم والغازية». جابر أبو هواش، مواليد 1931، يقدم شهادة أنتروبولوجية خالصة. ينتمي إلى عشيرة الغليفات، وكانت تعيش بين حيفا وعكا. كان والده يعمل في «البوليس». توظف مع البريطانيين وسكن عكا حتى 1948، وكان له أقارب بين شفا عمر والرمل. صارت لهم أرض بعدما تخلوا عن مدينيتهم. البدوي لا يقبل أن يتملك الأراضي، حتى لا يخدم في العسكرية. كان والده «قصاص الأثر». وهذا يشبه التحري في أيامنا. وما زال هو واللاجئون يتذكرون، كما لو أنهم يقصون أثر العودة.



مادة مهمة للباحثين
إلى جانب الأوراق والمشاركات التي قُدمت في المؤتمر، عن نضال المرأة وتاريخ القدس المديني وغيرها من المسائل المهمة، تبقى الشهادات الشفوية نفسها أهم الأحداث. وهنا، وبعد اكتمال «نواة» المشروع، لا بدّ من التنويه بالعمل الكبير الذي قام به فريق من مكتبات الجامعة الأميركية في بيروت، على جميع المستويات، تقنياً وبحثياً، من أجل إخراج هذه المواد بالصورة المتوافرة اليوم، كمادة جدية وضرورية ومتاحة لجميع الباحثين والمهتمين. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنّ هذا العمل بدأ في 2002، أي محاولة لحفظ أرشيف التاريخ الشفوي. طبعاً تبقى الفكرة ناقصة رغم أهميتها، وهذه مسؤولية لا تقع على أصحاب المبادرة، إنما على أصحاب القدرات، خاصةً أن هدف المشروع منذ البداية هو أن يكون الأرشيف شعبياً وليس محترفاً، يعني اللاجئين الذين يتحدثون وهم يجمعون أصواتهم وصورهم أيضاً. في البداية، أجرى محمود زيدان 136 مقابلة بين 2002 و2006. وفي 2010 بدأت فكرة إيداع الأرشيف في الجامعة الأميركية في بيروت.