محمد بنيس *
1


عندما صدر ديوان «لن» لأنسي الحاج سنة 1960، عن دار «مجلة شعر» في بيروت، أحس القارئ بصدمة مضاعفة في ذوقه الشعري. كان ذلك ــ من ناحية ما ـــ اعتيادياً في فترة الاختراقات التي عرفها الشعر العربي، منذ نهاية الأربعينيات في بغداد، ثم امتدت الشعلة إلى بيروت. صدمة مضاعفة، لأن أنسي الحاج أتى من أفق شعري يختلف جذرياً عن ذلك الذي أنشأه الشعراء المعاصرون في قصيدتهم، من حيث اللغة الشعرية وبناء القصيدة، أو من حيث الرؤية إلى الذات والعالم في آن واحد.

كانت قصيدته تنحدر من سلالة شعرية فرنسية في الأساس، بعكس النموذج الإنكليزي الذي استقاه بدر شاكر السياب من ت.س. إليوت وإديث سيتول. وأصبح، آنذاك، مشتركاً بين الشعراء التموزيين، بمن فيهم أدونيس، الذي كانت لغته الأجنبية هي الفرنسية وسط شعراء كانت لغتهم الثانية هي الإنكليزية.
شيئان جاءا مترابطين في ديوان «لن». أقصد المقدمة التي خص بها قصيدة النثر ثم قصائد الديوان. ولأنّ من الأفضل تجنب الربط بين توجه المقدمة وطبيعة القصائد، فإن المظهر الدادائي والسوريالي للقصائد كان السمة الأولى التي اكتشفها بعض الشعراء الشبان، وعدّوها نقطة انطلاقتهم في كتابة قصيدة متمردة على الثقافة الشعرية، التي كرسها الشعراء المعاصرون. أفضّل تجنب الربط بين المقدمة وقصائد الديوان بالنظر إلى أن المقدمة قراءة متسرعة لمقدمة كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا»، الصادر عن «مكتبة نيزي» في باريس في 1959، أي قبل أشهر معدودة من صدور الديوان، مما يؤكد أن كتابة القصائد استقـت نموذجها من الشعرين الدادائي والسوريالي، قبل أن تكون مدركة لقصيدة النثر، عبر تاريخها ومنعرجاتها النظرية. ذلك ما لم يكن ممكناً لأنسي الحاج أن يتعرف إليه في فترة قصيرة.


2


ما اكتشفه بعض الشعراء الشبان في ديوان «لن» ثم في «الرأس المقطوع» (1963) و«ماضي الأيام الآتية» (1965) أو في الدواوين اللاحقة، التي أصحبت متداولة بين هؤلاء الشعراء، الآتين إلى بيروت من العراق والأردن وسوريا، أو من الشعراء الذين تعرفوا عليه في مصر، أو البلاد المتاخمة، هو ما أصبح معروفاً بـ «قصيدة النثر». ولا أعتقد أن دواوين أنسي الحاج الأولى وصلت إلى المغرب ولا إلى الجزائر حين صدورها، مثلما لم تستطع مجلة «شعر» أن تصل إلى المغرب قبل أواسط الستينيات. وهو ما يفسر أن جيلي من الشعراء المغاربة أو شعراء الجيل السابق علينا، لم يكن لهم علم بما أقدم عليه أنسي الحاج في كتابة القصيدة، بل لم تكن لهم ثقافة شعرية، بالعربية، خارج مجلة «الآداب» ومنشوراتها، بما هي تمثل المرحلة الأدبية لما بعد مجلة «الأديب»، لكن النقد العربي نفسه لم يقدم على قراءة قصيدة أنسي الحاج، التي كانت ثقافتها شبه مفقودة. ذلك ما يجعلني أقول إنّ أنسي الحاج نسج عالماً محجوباً، لا نراه من خلال الخطاب النقدي بقدر ما نتعرف إليه من خلال الأمواج المتوالية للشعراء الذين رأوا في قصيدته مستقبل تمردهم وحريتهم، بل مستقبل تمرد القصيدة العربية على بلاغتها وتحررها من القداسة التي أحاطت بها. وربما كان الفعل الشعري لأنسي الحاج يزداد، اليوم، التحاماً بالتمرد. فما نعيشه من رجات في منظورنا الشعري والثقافي، في زمن الإسلام السياسي والأصولية الدينية، يضيء أكثر ما لم نستطع أن نراه من قبل في قصيدة أنسي الحاج.


3


التقيت أنسي الحاج أول مرة في الثمانينيات في مكتب «النهار العربي والدولي» في الشانزيليزيه في باريس. كنت آنذاك مراسلاً ثقافياً للمجلة، وغالباً ما أزور مقرها خلال زياراتي لباريس. وتجدد اللقاء في التسعينيات عندما زرته في مكتبه في صحيفة «النهار» في بيروت. في كل مرة، كنا نتقاسم كلمات المودة. كنت أتساءل، من قبل، عن سبب تجنب أنسي الحاج حضور المهرجانات الشعرية أو الندوات واللقاءات. وفي لقائنا في بيروت، تبيّنْتُ الجواب. سلوك أنسي الحاج الشخصي مخلص لتمرده على كل ما يمكن أن يعرض حريته لأي مضايقة، مهما كانت. بل هو سلوك يتطابق مع سلوك شعراء التمرد الأوروبي، الذين عاشوا في قطيعة مع المواضعات الاجتماعية في الحياة الثقافية. ما كان يشغل أنسي الحاج هو ما يكتب لا سواه. وهذا جانب يتفرد به، ويرفعه إلى مرتبة معلم التمرد في الحياة الشعرية العربية. وقد مكنه هذا السلوك من ممارسة حرية لا سبيل إلى تشويهها.
لكنني، وإن كنت تعرفت متأخراً إلى شعره، فقد سعيت إلى قراءته. من أول ما قرأت ديوانه «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» الصادر سنة 1970. شيئاً فشيئاً، حصلت على الدواوين الأولى، فيما كنت حريصاً على تتبع الجديد من أعماله. وفي غمرة قراءة الدواوين، اطلعت على ما كان ينشره في مجلة «شعر»، بعدما أهداني أدونيس مشكوراً نسخة كاملة من المجلة التي كان أنسي الحاج أحد أعضائها المؤسسين. في العدد الثاني، ربيع 1957، نشر مراجعة نقدية لديوان عبد الوهاب البياتي «المجد للأطفال والزيتون»، تلتها مراجعة دواوين لشعراء آخرين في الأعداد الموالية. ولم ينشر قصائده الأولى في المجلة إلا ابتداء من العدد الخامس، شتاء 1957، بعنوان «ثلاث قصائد»، لم يعد نشرها في أي ديوان، حسب ما أعلم. ويمكن النظر إلى الأسس النظرية التي استند إليها في مراجعاته النقدية كإضاءة للقصيدة المضادة التي كان يكتبها أو يعمل على كتابتها. وأكثر هذه الأسس إثارة للجدل في الخمسينيات هي الالتزام، الذي كان البياتي من أبرز ممثليه. إنها طريقته في الإعلان عن شعريته، بجرأة هي نفسها التي كتب بها رفقاؤه وأعطت مجلة «شعر» تلك الحدة في الاختيارات الجمالية التي اخترقت بعنفها (ومعرفتها) أوهام قصيدة مؤدلجة، لا تجرؤ على نقد ذاتها.


4


شعرية أنسي الحاج اختراق لم يتنازل عن الريبة في المُجمع عليه. لا أحصر هذا الاختراق في الماضي، ما كان وتم، في الدواوين والأعمال التي بدأ الشاعر في نشرها، منذ أكثر من نصف قرن. إن زمننا الشعري، اليوم، يدلنا على أن ما أنجزه أنسي الحاج ورفقاؤه، كل واحد بطريقته الشخصية، لا يزال يقف عند نقطة اللاوصول إلى الفعل الثقافي والشعري، عبر العالم العربي. ليس هذا القول من قبيل اليأس مما تعرفه الثقافة العربية، اليوم، في ظل الانهيارات الكبرى، ولكنه استنتاج خلاصة من تاريخ القصيدة العربية المعاصرة، من الخمسينيات حتى الآن.
عدم حصر الاختراق في الماضي يعني أن لهذا الشعر طاقة متجددة، وهي تنتظر زمنها، بغير إرغام الزمن على ما لا يحتمله الزمن ذاته. ومعنى الانتظار، هنا، الانتباه اليقظ لأركان تراها القصيدة بجسد كله عيون. ذلك ما أحتفظ به من شعر أنسي الحاج، وأنا أتأمله عبر عقود من الزمن، صاحبته فيها دون أن أتقاطع معه في رؤيته الشعرية، لأنني لم أكن، في حياتي الشعرية، على وفاق مع السريالية، التي انتقدتها في «بيان الكتابة».
والأبعد من هذا كله أنّ الشعراء، الذين قرأوا شعر أنسي الحاج، واعتبروه مرشدهم إلى التمرد على بلاغة القصيدة كما على قيم الطاعة، قاموا هم الآخرون باختراقات لا تتوقف عن المفاجأة. وأعتقد أن هذا ما يساعدنا على النظر إلى تجربة فتحت حداثة الشعر العربي على التعدد، الذي هو الوشم الذي لا يُمحَى في الكلام الشعري وفيه.


5


في العدد 14 من مجلة «شعر»، خريف 1960، نشر أنسي الحاج ترجمة 11 قصيدة من شعر أنطونان أرتو مصحوبة بدراسة. يفتتح الدراسة بمقولة لرامبو (من رسالته إلى بول ديميني، 15 ايار/ مايو 1871) أقتطف منها بدايتها «أقول إنه يجب أن يكون الشاعر عرافاً... أن يجعل من نفسه عرافاً... يصبح الشاعر عرافاً عن طريق إخلال متماد، هائل، واع، بجميع الحواس، يصبح بين الجمع المريضَ الكبير، والمجرم الكبير، والملعون الكبير ـ والعالم العظيم ـ لأنه يصل إلى المجهول.» يأتي أنسي الحاج بهذه المقولة (بتصرف) فيرى أن أمر الشاعر العراف هذا «لعله لم يعثر على فاعل ينفذه حتى الرعب، حتى الانتحار الشنج، وحتى مصير جُهل قبل ذاك، جُهل وقُوطعَ وخُنق وهو يبزغ إلا في أنتونان أرتو.» (يكتب الاسم الشخصي لأرتو بطريقتين مختلفتين) (ص. 92ـ 93.)
قراءتنا لهذه الدراسة في 1960، سنة نشر ديوان «لن»، تدلنا على أنها صورة الشاعر التي وضعها أمامه ليجسّدها في المستقبل. بهذه القطيعة الجذرية، التي تفرد بها أنسي الحاج، وضع قدمه على تجربة المخاطرة القصوى، بقيمها المضادة لجمالية القبول. ورغم أن الحياة الشعرية أخذت أنسي الحاج إلى حيث لم يكن ينتظر الذهاب، فإن كتابته في الشعر والنثر، أو ما ترجمه من شعر ومسرح، يشير إلى سلوك القطيعة الذي يظل الأشد ضرورة من سواه في حياة كل مبدع ينزع إلى أن يصبح حديثاً، قريباً من حلمنا الجماعي في حياة من الحرية.
* شاعر مغربي