بين الرياضيات والفلسفة علاقة عميقة وقديمة. للمجال الأول أهمية في الثاني، والعكس صحيح. قبل تطوّر الاختصاصات وتفرّعها، كان لمعظم علماء الرياضيات مساهمة في الفلسفة أيضاً. كذلك، لا تحتاج علاقة المجالين المذكوريْن الجوهرية بالموسيقى إلى أي شرح. من جهة ثانية، للرقم 9 موقع محوري في الرياضيات. فهو أكبر الأرقام التي تتألف منها كل الأرقام من الصفر حتى اللامتناهي. بالتالي، لهذا الرقم مكانة مرموقة في فلسفة الرياضيات. في الموسيقى له مكانته، يعرفها أي موسيقي لكن يصعب شرحها هنا. أمّا ما نسميه مصادفة، ربما فقط لعجزنا عن تفسير قانونٍ مخفيّ يرعاه، فهو سيرة تاسعة بيتهوفن التي تحاكي الأساطير بالمعنى السريالي.
من أين نبدأ؟ ماذا نقول؟ ماذا لا نقول؟ هذا يتطلّب وضع سلّم أولويات استناداً إلى مناسبة الكلام عن السمفونية التاسعة لبيتهوفن، وهو تنفيذها المرتقب ضمن «مهرجان البستان»، ونظراً إلى المساحة المخصّصة لنا، وهي محدودة جداً.
نبدأ من حيث تبدأ قصة هذا العمل، وننتقل إلى أبرز ما يجب التطرّق إليه. عام 1787، تكوّن في دماغ بيتهوفن، البالغ 17 سنة حينها، لحناً حفظه ووضعه جانباً لسنوات. بعد ثلاثة عقود، وبعدما فقد حاسة السمع بشكل كامل، قرّر بدء العمل على تشييد سمفونية عظيمة يكون هذا اللحن أساساً فيها. كان قد كتب قبلها ثماني سمفونيات، فأخذت سمفونيته الجديدة الرقم 9 حكماً. انتهى بيتهوفن من العمل على تحفته قبل سنتين من رحيله، وكانت أطول سمفونية في التاريخ آنذاك (بين 65 و75 دقيقة)، وأوّل عملٍ من هذه الفئة يدخل إليه الصوت البشري (أربعة مغنّين منفردين وجوقة). تألفت التاسعة من أربع حركات. في الجزء الثاني من الحركة الرابعة، يدخل الغناء («نشيد الفرح» للأديب الألماني شيلر) لأداء اللحن الأساسي الشهير ومتفرعاته بعد أن تكون قد مهّدت له الأوركسترا في الجزء الأول. تم تنفيذها لأول مرّة أمام الجمهور عام 1825، وكان بيتهوفن واقفاً بجانب قائد الأوركسترا (لعدم قدرته على قيادتها بسبب الطرش). اشتعلت الصالة، لكن بيتهوفن لم يصله شيء من إعجاب الجمهور، إذ كان بذات الوضعية لقائد الأوركسترا، وبالتالي وجْهُه للموسيقيين، ما اضطر القائد إلى لفت نظره.
ما عرفته هذه السمفونية من شهرة في ما بعد وضعتها على رأس النتاج الموسيقي وحتى الفني البشري (وهذه نقطة سنفصلها في ملف خاص عشية تقديمها الشهر المقبل). لكن القدَر حرم مؤلفها من سماعها! ومنذ إنجازها، حدثت أمورٌ غريبة. فبعدها، بدأ بيتهوفن بكتابة سمفونيته العاشرة. وضع بضع أفكار موسيقية ورحل عام 1827. شوبرت، زميله في الحقبة ذاتها، أنهى سمفونيته التاسعة ومات بعده بسنة. المؤلف النمسوي بروكنر تحايل على الأمر (من غير قصد)، إذ راح يرقّم أعماله السمفونية، بدءاً من «صفرين» ثم «صفر»، لكنه وصل إلى التاسعة فـ«أرْدته» (1896) قبل أن ينهيها. المؤلف التشيكي دفورجاك وصل إلى الرقم 9 ومات أيضاً (1904). وهذه السمفونية، المسماة «العام الجديد»، نسمعها في افتتاح المهرجان الليلة، وقد كتبها دفورجاك في أميركا بعد زيارتها.
أثار الأمر قلق زميل هؤلاء، النمسوي مالر. أنهى سمفونيته التاسعة. ارتعد خوفاً. وبدل بدء العمل على العاشرة، أعاد مراجعة التاسعة على غير عادته. ثم كتب عملاً سمفونياً، لكنه لم يدرجه في الترقيم خوفاً من لعنةٍ مؤكّدة، فسماه «أنشودة الأرض» (مستفيداً من احتوائه على إنشاد). اطمأن قليلاً. تشجّع. انطلق بمشروع العاشرة... فكان عزرائيل في انتظاره (1911)!
في «مهرجان البستان» هذه السنة، نسمع تاسعة دفورجاك وتاسعة بيتهوفن. سمفونية المؤلف الألماني ستؤديها في 19 آذار (مارس) المقبل «أوركسترا الشبيبة الأرمنية» بقيادة الإيطالي جيانلوقا مرتشيانو، وبالاشتراك مع جوقتَي «الكونسرفتوار الوطني» و«الجامعة الأنطونية» بإشراف الأب خليل رحمة والأب توفيق معتوق ومغنين منفردين من جنسيات مختلفة. أما سمفونية «العالم الجديد» فمدرَجة على برنامج أمسية الافتتاح بقيادة مرتشيانو أيضاً، لكن على رأس Pan-European Philharmonia Festival Orchestra.