في كل عام وفي 8 نيسان، أستذكر بوضوح ولادتك «أخوي غسان». منذ زمنٍ اعتدتُ أن أناديك هكذا، أن أكتب لك هكذا. أن أحدثك كما لو أنني أعرفك. بصراحة كنتُ وعلى الرغم من صداقتك الشخصية لوالداي، مثل الملايين غيري ممن لم يعايشوك شخصياً، لا نعرفك حق المعرفة. كنا نعتقد أننا إذا ما قرأنا كتاباً واحداً لك، فهذا يكفي. الرجل، الشاعر، العاشق الملهم، وفوق كل هذا المناضل. يضاف إلى كل هذا الأحاديث اليومية - العائلية عنك، والقصص التي تجعلك في مصافٍ أقرب إلى الآلهة أو الأنبياء منك إلى رجلٍ من لحمٍ ودم. كل هذا تغيّر أخوي غسّان بعد قراءتي مقالاتك النقدية التي كنت توقّعها باسمك المستعار «فارس فارس». يومها: تغيرت أنت كلّك بالنسبة لي. عرفتُ يومها أنَّ غسان كنفاني الصورة النمطية الأيقونية المقدسة هي غير حقيقية، وأن خلف هذا الأديب المقاوم شخصاً ساخراً، مرحاً يحب المزاح والضحك والسخرية. شخصٌ لا يجود الزمان بمثله كثيراً، لكنه حقيقي، حقيقي إلى درجة أنه يمكن مشاهدته يتحرك حولك ولا تشعر به.أظهرت في مقالات فارس فارس شخصاً آخر: شخص ينضح حقيقة، يستخدم لغةً مباشرة، ويسخر لدرجة الجلد أحياناً من أشخاصٍ يدّعون صناعة الثقافة والأدب. هل كنت بحاجةٍ لتسميةٍ «وهمية» وإسم حركي كي تقول هذا؟ هل كنت بحاجةٍ لأن تختفي خلف ستار الإسم هذا، كي تقول هذه «الحقائق»؟ لربما. إذ إن مهامك الحزبية والنضالية وحتى مسرحياتك/ قصصك تجبرك على أن تكون شخصيةً «مثالية» إلى حدٍ ما، فكيف يمكن أن تكون «ساخراً» ومثالياً في آنٍ معاً؟ ارتأيت أن تحمل «اسمك الحركي» وتستعمله. لكن فارس فارس لم يكن إسمك الحركي الوحيد فكان أبو فايز، وحتى فايز في لحظات ما. كلها كنت تهرب فيها إلى عالمٍ تستطيع إظهار شخصيةٍ يعرفها أصدقاؤك القريبون ومن عايشوك شخصياً فقط. «أنا» لا يحاسبك عليها أحد ممن يريدون «قولبتك» ووضعك في قالب «جص» من المثاليات. يوماً ما أخبرني صديقي العزيز الشاعر الكبير عز الدين مناصرة قصةً جمعته بك وبالراحل ناجي العلي. كان ناجي شخصاً حاداً، عصبياً، ولكن طيب القلب والمعشر، وكيف أنكم اتفقتم على أن تضايقوه إثر سهرةٍ جمعته بالراحل ياسر عرفات، وأشعتم في المقهى – حيث تسهرون يومياً- أنه حالما يأتي ناجي من العشاء -الذي اعتقده هو خبراً سرياً لا يعلم عنه أحد- تهرعون خارجاً مع حدجه بنظرات حادة، وبعض الكلمات التي تعني أنه «باع» الوطن والقضية واليسار وإلى ما هنالك. كان الأمرُ مزحةً لا أكثر، ناجي كعادته أخذ الأمر جدياً أكثر من اللازم مما اضطركم للعودة سريعاً واسترضائه ضاحكين.
هذه كانت بنات أفكارك أخوي غسّان. ماذا عن المرة التي تعاركت فيها مع الأديبة السورية غادة السمّان وكلاكما تضغطان على دواسة الوقود في سيارتك؛ فيما يجلس في الخلف صديقكما بسام أبو شريف –الذي أورد القصة في كتابه حولك- يومها جن أبو شريف من «جنونكما» الذي كاد يقتلكم جميعاً في شارعٍ مكتظٍ بالسيارات والمارة. لاحقاً قررت غادة أن تظهر رسائل تجمعكما معاً، هل كانت هذه الرسائل منك؟ هل كانت حقيقيةً فعلاً؟ لم يثبت أحدٌ ذلك. هل كانت كلماتك تلك رداً على «رسائل« خاصة هي أرسلتها جعلتك ترد بهذه الطريقة غير «المعتادة». لكن أخوي غسان، كيف يمكن تحديد المعتاد مع «مبدعٍ» مثلك؟ كيف يمكن أن نقول بأن هذا هو «العادي» مع غسان كنفاني؟ ما هو العادي/ اليومي مع أحدٍ عاش حياتك وجرّب تجاربك؟ جرّب كيف كنت تعيش يومياً مع «مفترسٍ» لا يرحم كمرض السكري، كيف أنك كنت لا تنام لليالٍ متواصلة متألماً. كيف كنت تستغل الوقت المؤلم ذاك في الكتابة والقراءة، وكنت تصر على أنه «ليس لدي وقت»، و«علي أن أعمل أكثر»، وهناك «شيءٌ لم أنجزه بعد».
في لحظةٍ تاريخية مؤذية، قررت رئيسة وزراء العدو غولدا مائير، أن تضعك على رأس قائمة اغتيالاتها (بعد عملية ميونخ الشهيرة)، تحكي مصادرُ كثيرة أن قادةً كُثراً في جهاز الموساد دهشوا من أن اسمك يتصدّر القائمة، حتى إن تسفي زامير رئيس الموساد آنذاك (ووحدة اغتيالاته «كيدون» –أي الحربة) فوجئ بالقائمة واعترض عليها، لا لأن قلبه رقيق ويحب الأدب والأدباء، بل لأنه اعتبر أن تضييع «امكانيات» الموساد وقدراته لاغتيال «أدباء» ومثقفين هو «امرٌ بلا طائل». شرحت مائير لزامير أنَّ خطرك أشد من خطر آلاف «قادة» العسكر، والمسلحين، والمليشيات وسواهم. قالت بأن «أثرك» إذا ما بقيت حياً يقتل كيان احتلالهم. لذلك عليك أن ترحل. هكذا كنت أخوي غسان، لهذا الحد خطراً على دولةٍ بأكملها. لهذا الحد يكون «الأدب» و«الثقافة» و«المثقف» خطراً مخيفاً على «كيانٍ» مدججٍ بالسلاح يمتلك آلاف الطائرات والدبابات والصواريخ وحتى مفاعلاً نووياً.
اليوم، أخوي غسان، يخجل كثيرون من استخدام كلمة «مثقف» و«ثقافة» في العلن، وقد يستخدمها كثيرون كشتيمة، وسخرية؛ لكن –ولله الحمد- أتى أحد تلامذتك –عزيزنا باسل الأعرج- وأعاد للتعبير أهميته وصفته من خلال ادماجه مع فكرة «الإشتباك» التي استخدمتها وعملت بها حتى استشهادك. اليوم، أخوي غسان، كما كان البارحة، هو لك، لثقافتك، لتميزك، لابداعك، لاختلافك. لك، لفارس فارس، لأبوفايز. لك في كل أسمائك الوهمية، ورسائلك الحقيقية منها والوهمية. لك، لفلسطين.