ليت الفرح ولحظات المتعة يمكن قياسها على المستوى الجَماعي. ليت لهفات القلوب يمكن تقدير حجمها. ليت لبريق العيون ترجمة إلى لغة مفهومة. هذا مستحيل ومعه يستحيل نقل الصورة الدقيقة لآلاف الوجوه التي لاقت الفنان زياد الرحباني إلى حفلاته الست في أوروبا مطلع آذار (مارس) الماضي. في لبنان، قلّما شهدنا هذا القدر من الشغف والحب في إطلالات زياد الحية. اللقاء الأول مع السوريين في الشام عام 2008 يبقى المرجع المطلق في هذا المجال، غير أنّ ما حدث في الجولة الأوروبية اقترب كثيراً من الذروة الدمشقية، حتى إنّه تخطّاها أحياناً، لكن في حالات فردية. الجولة انتهت في التاسع من الشهر الجاري. عاد أعضاء الفرقة والطاقم المساعد والتقنيون كلٌّ إلى بلده. لكن صدى الحدث ككل، قبل الحفلات وبعدها، سيتردد طويلاً في أذهان من عاشوه جزئياً أو كلياً، لأن ذكرياته ستحفر عميقاً في وجدان الجميع، ولو أن بعضها موجعٌ في حينه. فجولة زياد الرحباني الأوروبية ليست فقط حفلات موسيقية، بل تتخطى الحدث بشقّه الفني إلى مغامرات مشوّقة جداً، مضنية حد التلف، خطيرة أحياناً، ممتعة عموماً، لعبت فيها الصدف العجيبة أدواراً سلبية وإيجابية… انتظرنا بعض الوقت لترقد مفاعيلها في الجسد والنفس، قبل أن ننقلها إليكم بنسبة مقبولة من الأمانة والدقّة والشمولية، وبمنسوب عالٍ من متعة التوثيق الذي نقوم به، الآن، من منطلق الواجب المهني، لكنه في النهاية واجب إنساني تجاه أجيال قادمة قد لا يُبقي لها المجتمع الاستهلاكي سوى الذكريات لتعيش من خلالها شيئاً من الحياة الحقيقية.

سلمى مصفي أضفت على حفلتي باريس جواً من الحماسة

مطلع الخريف الماضي، بدأ الكلام الأوّلي عن حفلة موسيقية للفنان زياد الرحباني في أوروبا، وتحديداً في برلين. زار بعدها الرحباني السفير الألماني في بيروت وطلب تأشيرة سفر إلى ألمانيا، فتعدّت الزيارة هدفها إلى الاتفاق على أمسية موسيقية مشتركة (استضافها لاحقاً مسرح «زقاق») بعدما تبيّن أن السفير يتقن العزف على الغيتار. بدأت الاتصالات، ومعها بدأ يكبر المشروع: بدل الحفلة في برلين، جولة في أوروبا، تبلورت تباعاً لترسو على ست حفلات في خمسة بلدان، من ضمنها بريطانيا التي تتطلّب تأشيرة دخول خاصة. في بيروت، بدأت الاستعدادات والاتصالات بالجهات التنظيمية في ألمانيا (لتنسيق حفلتَي برلين وكذلك روتردام في هولندا) وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا… وبدأت الرسائل الإلكترونية تهطل من المنسّقة العامة للجولة، من الجهة الأوروبية، ميرنا معكرون، وهي مخرجة سينمائية مقيمة في ألمانيا وصديقة مقرّبة من زياد، وسبق أن عملت معه قبل سنوات. عناوين هذه الرسائل: طلب أوراق ووثائق، بطاقات سفر جوية، بطاقات قطار، مشاكل، حلول، توضيحات واستيضاحات، متابعة تأشيرات الفريق المرافق من لبنان وأعضاء الفرقة الذين سينضمون من بلدان أخرى، حجز الفنادق، رسائل الدعوات، برامج الجولة وتوجيهات عامة عن البروفات والتنقّل وتبديل القطارات… كل ذلك اصطدم بمشكلة أولى: إعلان شركة الطيران (جرمانيا) إفلاسها. ثم ثانية: تأشيرة لندن تعجيزية. الأولى، تم حلّها سريعاً، بالانتقال إلى الشركة الوطنية التي كان لها حصّة من البرنامج الموسيقي من خلال المقطوعة التي تحمل اسم MEA. أما الثانية، فكانت بمثابة الجلجلة التي كادت تطيِّر الجولة برمّتها، وقد كلّفت لحلّها مبالغ طائلة من خلال خدمة تسريع المعاملات وحجز المواعيد القريبة. أخيراً، حصل الجميع على التأشيرة البريطانية باستثناء المغنية هبة ابراهيم (لبنانية تعيش في تركيا) وعازف الإيقاع هاني بدير (من مصر). كل ذلك، أضف إليه إعداد البرنامج وتركيب الفرقة ومتابعة أدقّ تفاصيل الرحلة ومتطلباتها والموافقة على تصاميم الملصقات وغير ذلك، كان يمرّ عبر زياد وتحت إشرافه، وفي الوقت عينه، الأمسيات الدورية في لبنان «شغّالة» والتعب متواصل. قبل ثلاثة أيام من السفر إلى ألمانيا، بدأ زياد يشعر بعوارض مرض خفيفة. لم يكن ينقصه سوى ذلك! اتصل بالطبيب وشرح له الوضع، فوصف له دواءً لهذا النوع من الانفلونزا الذي كان يضرب البلد على ما يبدو.
في فرنسا حضروا مع هدايا لزياد ولـ«الست فيروز» من الأراضي المحتلة


الأربعاء 28 شباط (فبراير). الساعة الرابعة فجراً كان زياد أول الواصلين إلى مطار بيروت. الطائرة تقلع عند السابعة صباحاً. بعده وصل الجميع تباعاً: ستيفاني ستيفانو (مديرة الفرقة)، وسام جرّح (مهندس صوت) ورأفت بو حمدان (عازف البزُق). وصلنا في تمام العاشرة من قبل الظهر إلى فرانكفورت. فالرحلة تستغرق أربع ساعات، وكسبنا ساعة بفعل فارق التوقيت بين البلدَين. باستثناء رأفت (ولاحقاً هبة إبراهيم وتوفيق فرّوخ)، الجميع مدمنٌ بشراسة على التدخين (الإلكتروني من ضمنه). من فرانكفورت، ركبنا القطار إلى برلين بعد معاناة طويلة عند نقطة التدقيق الأولى في المطار. في تلك الرحلة (فرانكفورت — برلين) وخلال جميع الرحلات في القطارات (برلين — بروكسل، بروكسل — باريس، باريس — لندن، لندن — روتردام وروتردام — فرانكفورت)، تولى وسام مراقبة خارطة سير القطار ورصد المحطات التي سيتوقّف فيها والمدة الذي سيستغرقها التوقّف، لإبلاغ المدخنين وتأهيبهم قبل بضع دقائق لتجهيز العدّة والتوجّه نحو الباب لكسب أطول وقت ممكن. لقد كانت لعبتنا المفضّلة: مراقبة المراقبين، انتظار صوت إشارة الانطلاق للقفز من الرصيف إلى المقصورات، تقييم مدى نجاح المهمة، وانتظار المحطة التالية. بين محطتَين الخيارات معروفة: القليل من النوم، زجاجة بيرة في بار القطار، القراءة، مشاهدة شريط المناظر الخلابة السريع من شباك المقصورة. وصلنا مساءً إلى برلين ومعنا كل الأمتعة و«كيبورد» في علبته الخاصة بالسفر، تعذّر تأمينه في جميع الحفلات، فقرر زياد اصطحابه من بيروت. الجميع هنا: الموسيقيون الهولنديون الستة، هبة وهاني، وتوفيق فرّوخ، عازف الساكسوفون، صديق زياد القديم، الذي أتى من باريس حيث يقيم منذ سنوات. تسلّمنا الغرف، وخرجنا لتناول الطعام، ثم عدنا إلى الفندق. التعب كبح الرغبة في السهر، والبرد لا يشجّع على الخروج للتدخين، وغداً يوم البروفات الطويل… لكن لا بدّ من كأس للتخفيف من إرهاق اليوم الطويل.
بعد الفطور الألماني الدسم، توجّه الجميع، سيراً على الأقدام أو في سيارات، إلى Kesselhaus حيث ستجري التمارين وتقام الحفلة الأولى. إنه جزءٌ من مقرّ ثقافي ضخم، تتوسطه ساحة تحيط بها مبانٍ حجرية. إنه معمل بيرة قديم، تم تحويل كل مبنى فيه إلى مساحة للإبداع والفن. يتألف البرنامج من عشرين مقطوعة وأغنية، من ضمنها أربعة عناوين تحمل توقيع الراحل جو سامبل تأليفاً، على اعتبار أن الجولة كانت تحيّة له. «أمرك سيدنا»، «القافلة»، مقدّمتَا «لولا فسحة الأمل»، «رمادي عا رصاصي»، «أسعد الله مساءكم»، «مهووس»، «أكياس وشنط»، «وصّلو عا بيتو»، «من كلّ بد»، «تحية إلى باخ»، «دعوى ضد مجهول»، Un verre chez nous، «ما تفلّ»، «روح خبّر» وغيرها. باختصار، إنه برنامج صعب ومتطلّب تقنياً. رغم ذلك، لقد أنجزت الفرقة التمارين على نحو عشرين مقطوعة في يوم واحد! هذا هو مستوى الموسيقيين الذي شاركوا في الجولة (راجع المقالة الثانية). زياد مرتاح. لا تشنّج ولا تعصيب. فالتنظيم ألماني والوضع فنياً على ما يرام. تعشّينا في أحد المطاعم القريبة، استقلت ميرنا عشوائياً إحدى السيارات المركونة في الشارع (من خلال أحد التطبيقات الحديثة) وأقلّت المنهكين إلى الفندق، وعاد الباقون سيراً على الأقدام.

من حفلة هولندا

وصل الأول من آذار. اليوم الذي ينتظره المئات من العرب المقيمين في ألمانيا بشكل خاص (فلسطينون، سوريون، أكراد، لبنانيون…). أجرت الفرقة بعض التمارين الإضافية، واستعدّ الجميع للحفلة الأولى. صفٌّ من مئات البشر احتشد عند مدخل Kesselhaus قبل ساعات من فتح الباب. أطلّ زياد على المسرح فانفجرت الصالة «الصناعية» الملامح بالترحيب. السفراء والشخصيات جلسوا على الشرفة، والغالبية وقفت أمام المسرح. الجو يفيض بالحرارة والحماسة والتفاعل… والتصوير! هكذا ستكون الأجواء في باقي محطات الجولة. الحفلة الأولى مرّت بسلام، والفرقة باتت جاهزة فنياً، بالتالي، من الآن فصاعداً، ستكون الأمور سهلة… أو هكذا اعتقدنا.
رغم جميع المحاولات، لم نستطع تأجيل القطار لكي نستفيد من وجودنا في برلين، المدينة العظيمة، بما أن حفلة بروكسل في الثالث من الجاري. انطلقنا باكراً، محمّلين بالأمتعة والآلات الموسيقية، إلى محطة القطار. الرحلة التي كان يجب أن تستغرق 7 ساعات، تخطّت الـ12 ساعة! إنها مدينة كولونيا (Köln) وتزامن مرورنا فيها مع كرنفالها العريق، أو ما يسمّى «الأيام المجنونة»، لأنها فعلاً كذلك. آلاف البشر المتنكّرين. بحر من الألوان والأشكال والأزياء الغريبة عطّل حركة القطارات، فتوقفنا لساعات في المحطة، قرب كاتدرائية رهيبة. بعد طول معاناة وصلنا إلى بروكسل ليلاً، حيث استقبلنا المنظمون (يساريون لبنانيون) بفائضٍ من البهجة التي لم نكن بمزاج مثالي للتفاعل معها. إلى الفندق فوراً. «أنا مريض جداً»، نزل علينا كلام عازف الترومبت الأول، رود برولز، كالصاعقة. لكن لحسن الحظ أن الدكتور علي (أحد المنظّمين) كان قد استعدّ لهذا النوع من الطوارئ، ففحص الرجل وأعطاه ما يناسبه من دواء. رغم التعب، اكتشف المدخّنون جنتهم في هذا الفندق: غرفة جانبية مخصصة للتدخين، ولائقة! سهرنا وسكرنا وضحكنا، ثم نظّفنا الغرفة، كما وعدْنا عامل الفندق، كي نكسب سهرة أخرى فيها بعد الحفلة.
في اليوم التالي، لبّينا دعوة السفير اللبناني إلى الغداء. عازف الترومبت الأول ما زال بوضع صحّي مأزوم. الطقس أقل قساوة هنا، رغم المطر الخفيف الذي تساقط بشكل متقطّع خلال النهار. بعد الظهر، توجّهت الفرقة إلى المسرح (إحدى قاعات «جامعة بروكسل الحرّة») وأجرَت sound check وتمارين سريعة على عناوين أضيفت إلى البرنامج (موسيقى MEA وأغنية «بلا ولا شي»). القاعة ضخمة وسقفها مرتفع وهي غير معالَجة أكوستيكياً للموسيقى، لكن النتيجة العامة كانت مقبولة لهذه الناحية. أما أداء الفرقة، فبات في أعلى مستوياته، وزياد في وضع جيّد أتحف الجمهور بموسيقاه تأليفاً وارتجالاً. عدنا إلى الفندق وخلعت الفرقة عنها ثوب الحفلة والجدّية، وسهرنا أجمل سهرات الرحلة على الإطلاق، رغم الإرهاق. في بروكسل، بالمناسبة، اكتشفنا توفيق فرّوخ على «حقيقته». فبخلاف ما يوحي به من جدية، «عُمَر» (دوره في «فيلم أميركي طويل») شديد التفاعل مع الفكاهة المرهفة الخاصة بزياد، صديقه منذ أكثر من أربعين عاماً. أما موسيقياً، فتولى فرّوخ حصر استفسارات زملائه في مجموعة آلات النفخ به، فتولى الوساطة مع الرحباني خلال البروفات. وفي الحفلات أبدع بعض الصولوهات، وبالأخص تلك التي جاءت ضمن عناوين شارك في تسجيل نسخها الأولى قبل انتقاله للعيش والعمل في فرنسا قبل عقود… في اليوم التالي، بدا متحمّساً، فالوجهة فرنسا، بلده الثاني، وهو مرتاح لتقديم مساهمته في مشروع زياد أمام الجمهور العربي والمحلي في باريس.
في القطار الذي أقلّنا من بروكسل إلى فرنسا، بدا زياد متعباً، وتخلّى عن رغبته في استراق «مجّة» سريعة من سيجارته خلال التوقّف بين محطتَين. لم يتوقّع أحد منّا أن الرجل بدأ يعاني من أزمة صحية خلال الرحلة، تفاقمت بشكل مطّرد ما إن نزل من المقصورة إلى الرصيف، حيث كان هادي زيدان، منظّم الحفلتَين في New Morning، بانتظارنا وقد وُضِع بصورة الوضع المستجدّ. تركنا الفرقة وتوجهنا نحو السيارة التي جهّزها زيدان لتقلّ الرحباني بسرعة إلى الفندق. لم تستغرق الطريق أكثر من ربع ساعة، لكنه كان كافياً لتدهور حالة زياد الصحية إلى درجة مقلقة، حيث بدأ يرتجف ويئن من أوجاع الجسد العامة التي تسببت فيها ما نسميها بالعامية «البردية». بعدها، شحب وجهه وأسند رأسه إلى الخلف، وراح يتمتم بكلمات غير مفهومة. إنه يهذي، فقد تخطّت حرارته أربعين درجة مئوية بالتأكيد. سألناه: هل نتوجّه إلى المستشفى. أجاب: ليس الآن، أمهلوني قليلاً. وصلنا أخيراً إلى الفندق. الحفلة بعد حوالى خمس ساعات، والجميع استعدّ لإعلان إلغائها بشكل شبه مؤكّد. اتصل هادي بطبيبٍ حضر بسرعة، ووصف لزياد مضاداً حيوياً وأدوية أخرى بعد فحص عام. بعدها، نام وطلب أن نوقظه عند ساعة محددة، بينما كانت الفرقة تستعد وتجهّز آلاتها وتتحقق من الصوت في «نيو مورنينغ». بعد نحو ساعتين، قرعنا الباب. ساد صمتٌ ثقيل لم ينكسر. اتصلنا بالغرفة. حاولنا الوسيلتَين أكثر من مرّة، من دون جدوى، فسيطر الرعب. طلبنا من موظف الفندق فتح الباب. تردّد بدايةً، فأطلعناه على الوضع، بين حالة نزيل الغرفة الرقم 407 والحفلة التي سيقيمها بعد أقل من ساعة ونصف في الحانة التي تبعد خمسين متراً فقط عن الفندق. فتحنا الباب. زياد نائم، لكنّ ثمة تورّماً في وجهه! ذُعِرنا. استدعينا الطبيب مجدداً. قبل وصوله، استيقظ زياد وأخذ وضعية الجلوس على السرير، فخفّ الورم بسرعة. لا شيء خطير، قال الطبيب. هذا مألوف بوجود حرارة، لأسباب شرحها باختصار. كيف تشعر الآن؟ كل شيء على ما يرام. لا بردية، لا حرارة، لا أوجاع… إذاً، حفلة! شيءٌ لا يصدّق. الرجل الذي كان بوضع مقلق قبل ساعتين، سيقدّم واحدة من أجمل حفلات الرحلة، إن لم تكن الأجمل. في اليوم التالي، أجرى الرحباني مقابلات عديدة مع وسائل إعلامية عاملة في باريس («فرانس 24»، «مونتي كارلو» الدولية،…) وعاد بعد الظهر إلى الفندق ليبدأ بعدها سيناريو أمس بالتكرار، مع فارق أن هذه المرة بقيت حرارته مرتفعة حتى ما قبل الحفلة بأقل من نصف ساعة. ستُلغى، بالتأكيد! لكن أيضاً تكرر السيناريو: بقدرة قادر، تحسّن الوضع بسرعة، فجهّز زياد نفسه ومشى صوب الحانة واعتلى المسرح، كما في ليلة أمس، من دون تأخير. والسيناريو الثالث الذي سيتكرر في هذا اليوم الطويل هو الحفلة وأداء الفرقة التي ضمّت في باريس، وللمرة الأولى منذ صدور «مونودوز» قبل نحو عقدين، الفنانة سلمى مصفي التي أضفت على الليلتَين جواً من الحماسة، وعلى الكواليس جرعات من اللطف والحب.
عندما غادر زياد الرحباني لبنان إلى أوروبا لم يكن معافًى كلياً كما أسلفنا. التعب، والقطارات، والطقس البارد… كلها أسهمت في تدهور حالته الصحية. بعد حفلة باريس الثانية في الخامس من آذار (مارس) سنتوجّه إلى لندن، والحفلة في السادس منه! لا وقت للراحة… وحدث ما لم يكن في الحسبان: الجمارك الفرنسية تُضرِب اعتراضاً على الـ Brexit وتعطّل «محطّة الشمال» التي سننطلق منها إلى لندن، مروراً تحت بحر «المانش». كنا شبه أكيدين أن لا حفلة الليلة في الـJazz Café. يوجد آلاف البشر في محطة فُتِح فيها، بعد انتظار ساعة، مدخل واحد لتفتيش الحقائب والتدقيق في التأشيرات. كنا خائفين على زياد: لن يتحمّل جسده هذا الموقف! فطلبنا استثنائياً أن يهتمّوا بتسهيل دخوله (رغم اعتراضه)، فاستجابوا، ومع ذلك تطلّب الأمر أكثر من ساعتين بين نقطة الجمارك وانطلاق القطار الذي تأخر بطبيعة الحال. كسبنا ساعة إضافية في لندن بسبب فارق التوقيت. ساعة كانت الفرقة بأمسّ الحاجة إليها، وزياد كذلك. للمرة الثالثة على التوالي، سيجلس الرحباني خلف البيانو وفي الوقت المحدد، وسيقدّم لحظات فنية، ستكون استثنائية في ذاكرة من شاهدها من الجمهور الذي غلب عليه حضور فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 بفعل سهولة انتقالهم بجواز سفر إسرائيلي إلى بلد «الوعد» الذي نكَبَ فلسطين ومحيطها. حضروا، كما في فرنسا، مع هدايا لزياد ولـ«الست فيروز» من الأراضي المحتلة، وللقاء فنانٍ يعشقونه وممنوع عليهم متابعة نشاطاته في لبنان، على بعد كيلومترات قليلة منهم!
من لندن الباردة جواً وروحاً إلى روتردام الأنيقة، الحديثة والأليفة، توجّهنا في رحلة غير متعبة. رود، عازف الترومبت الأول بكامل عافيته، وزياد، وبعد اتصالات مع طبيبه في لبنان، وتغيير المضاد الحيوي، بات في وضع شبه طبيعي. نحن في السابع من آذار، والحفلة في التاسع منه، أي للمرة الأولى منذ بروكسل، ستتمتع الفرقة بيومَي راحة. إنها السعادة. هذا سيزيل التعب عن الجميع، وسيقدّم فرصة شفاء تام لزياد… والحفلة الأخيرة ستتوّج الرحلة بمستوى الاستعداد لها وبتنظيمها الممتاز، في حين أن خطر إلغائها شبه معدوم. في اليوم التالي، ذهب كل في طريقه باتجاه ما يهمّه في مدينة يزورها للمرة الأولى… أما هولنديّو الفرقة فتوجّهوا إلى منازلهم، على أن يعودوا في اليوم التالي قبَيْل الحفلة. باستثناء بعض المشاكل العالقة مع لندن تنظيمياً (التأخير في دفع أتعاب الفرقة)، لم يعكّر الإعداد لحفلة روتردام في قاعة مبنى De Doelen المهيب أي تفصيل. قبل بضع ساعات من موعد الأمسية، فوجئنا بزياد يبلغنا بأنه في وضعٍ مزر. لقد عادت الكريزة لتضرب من جديد، وبشكل أسوأ. دخلنا مجدداً في المجهول.
بقي زياد في ألمانيا، حيث لا يزال لغاية اليوم، للعمل على بعض المشاريع والإعداد لأخرى ستبصر النور في المستقبل القريب

قبل دقائق من الموعد الرسمي للحفلة، اتصل زياد وأبلغنا أنه تحسّن كثيراً، وجاهزٌ للانطلاق إلى المسرح القريب مسافة دقيقة من الفندق. في الكواليس نظافة وترتيب واهتمام بالضيوف. زياد غرفته مستقلة، وفيها بيانو «شتاينواي» (و«ياماها» على المسرح!). هكذا أمضى أوقات «الفراغ» (قبل الحفلة وخلال الاستراحة) في العزف عليه. كما في بلجيكا، كذلك في روتردام، القاعة ضخمة وسقفها مرتفع، لكنها معدّة للموسيقى الحية، لكن ليس لهذا النوع من الفِرق، بل للأوركسترات الكلاسيكية. مع ذلك، كانت بحق مسك الختام. أكثر من ألف شخص استمعوا بصمت وهتفوا بحماسة، قبل أن يقتحموا المساحة الفاصلة بين المسرح والقاعة للتفاعل عن قرب مع فنانهم في الدقائق الأخيرة من اللقاء.
انتهت الحفلة والجولة. في اليوم التالي غادر هاني بدير إلى مصر وهبة إبراهيم إلى تركيا والهولنديون إلى بيوتهم، وتوجّه الوفد اللبناني في الفرقة إلى محطة القطارات للسفر إلى فرانكفورت، ومنها جواً، في اليوم التالي، إلى بيروت. بدّلنا القطار في «أوتريشت» التي حصلت فيها حادثة إطلاق النار أخيراً، وتوقّف القطار، للمرة الثانية في هذه الرحلة، في مدينة كولونيا الألمانية، لكن هذه المرة لن ينطلق من جديد: أمامنا عاصفة عطّلت التجهيزات، والقطارات لن تسير قبل الغد. على وقع شتائم رأفت الخجولة لبلاد الغرب وملاحظات وسام على الهفوات التنظيمية وبحث ستيفاني الدائم عن كأس فودكا لمواجهة كل هذه المشاكل، عدنا إلى قواعدنا سالمين… وبقي زياد في هولندا وبعدها انتقل إلى ألمانيا، حيث لا يزال لغاية اليوم، للعمل على بعض المشاريع والإعداد لأخرى ستبصر النور في المستقبل القريب.



الموسيقيون
تألفت المجموعة الموسيقية التي رافقت الفنان زياد الرحباني إلى أوروبا من اللبنانيين توفيق فرّوخ (تينور وسوبرانو ساكس — مقيم في فرنسا)، رأفت بو حمدان (بزُق — مقيم في سوريا) وهبة إبراهيم (غناء — مقيمة في تركيا)، وعازف الإيقاعات المصري هاني بدير، أما باقي أعضاء الفرقة فمن هولندا. المستوى الموسيقي غير المسبوق في هذا النوع من أمسيات الرحباني يعود، بالإضافة إلى المساهمة القيّمة للفنانين المذكورين أعلاه، إلى خبرة الموسيقيين الهولنديين. باستثناء عازف الباص الكهربائي الأربعيني، تراوح أعمار هؤلاء بين الخمسين والستين سنة، وربما أكثر، أي إن في رصيد كل منهم آلاف ساعات العزف بين الاستوديو والحيّ. معظمهم أعضاء في «أوركسترا ميتروبول» الهولندية الشهيرة، باستثناء عازف الترومبت الثاني، الذي يعيش في ألمانيا ويعمل ضمن الـ«بيغ باند» الأهم في أوروبا (وربما الأهم في العالم) أي الـWDR. أهم من ذلك، لقد أحبّوا موسيقى زياد كثيراً، وقدّروه جداً كمؤلّف، وقد عبّروا عن ذلك في أحاديث جانبية. لقد بدوا مذهولين بهذه الكتابة الموسيقية الاستثنائية، فأعطوا من قلبهم وأمتعوا الجمهور وزياد على السواء. إنهم أرنو فان نيوفنهويزه (درامز) شريك الرحباني منذ عقدَين، كزندر بوفلو (باص كهربائي) الذي يخصّ زياد آلته بأسطر من الذهب الخام، تفان فان غرفن (غيتار كهربائي) الذي صفّق الجمهور لكل صولوهاته، رود برويلز (ترومبت أول) لاعب الجملة اللحنية المكتوبة بأمانة ومضيف بعض الارتجالات النظيفة، فيم روت (ترومبت ثاني) الوحش الذي يضاعف الزخم أينما حلّ، وأخيراً، يان أوستينغ (ترومبون) الـ«ترومبون» البشري الذي بادر إلى لعب جملٍ غير مكتوبة لآلته في الأساس، لأنها مستحيلة عليها، لكن ليس عليه! تحية لهم. تحية لشغفهم ولروحهم المرحة. شكراً لهم على كل ما قدّموه فناً ومزاجاً… إنهم موسيقيون حقيقيون ويكرهون كلمة Tacet.


السفراء
خلال جولته الفنية الأخيرة التي مرّ خلالها بخمس دول، التقى زياد الرحباني أربعة سفراء للبنان في أوروبا. باستثناء سفيرنا لدى بريطانيا، بادر سفراء لبنان لدى ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وهولندا إلى اللقاء بزياد والترحيب به، كلٌّ على طريقته. في ألمانيا زاره السفير مصطفى أديب أثناء البروفات، وفي بلجيكا لبّى زياد دعوة السفير فادي الحاج علي إلى الغداء في السفارة مع كامل الفرقة والمنظّمين. في فرنسا، «اقتحم» السفير الديناميكي رامي عدوان الكواليس بعفويةٍ وحماسة للترحيب وتقديم كل الدعم لمشاريع مستقبلية. أما في هولندا، فقد لبّى زياد دعوة السفير عبد الستّار عيسى إلى عشاء هادئ داخل الفندق، حيث قال الأخير بصراحة إن اللقاء بالنسبة إليه هو بمثابة حلم تحقق.


... ما بعد الجولة
ديسكوغرافيا الفنان زياد الرحباني لناحية التسجيلات الحيّة تستوجب صدور مقتطفات من جولته الأوروبية. فشريط «بهالشكل» لم يُطبع إلا على كاسيت وقيمته الفنية متواضعة نسبةً إلى ما «حصل» في أوروبا. شريط «موسيقى على قيد الحياة من بيروت» مضمونه قريب من برنامج الجولة، لكنه تسجيلٌ بالصوت والصورة، وهو غير متوافر منذ سنوات. وكذلك بالنسبة إلى Da Capo (صدر بكمية محدودة على DVD). حفلات دمشق كانت ممتازة لكن برنامجها الفني مختلف عن برنامج الجولة، ومشروع زياد الموسيقي أوسع من الأغنية الشعبية. من هنا، وكما أن أسطوانة «دمشق 2008» وفّرت للتاريخ وللأجيال وثيقة مهمّة عن قمّة فنية عربية حيّة، كذلك، زياد مطالب اليوم بالعمل على إصدار مختارات من الجولة الأوروبية، خاصةً أن كثيرين لم يوفّقوا إلى بطاقة دخول إلى الحفلات الست أو لم تسمح لهم ظروفهم بالسفر لهذا الغرض، فضلاً عن أن معظم من حضروا شتّت فرح اللقاء انتباههم وغابت عنهم تفاصيل موسيقية كثيرة. فالأسطوانة، إن صدرت، ستمنحهم فرصة سمع ثمينة ودائمة لتحف تستوجب المقاربة المتأنّية للولوج إلى خفايا توزيعها الموسيقي.