من باخ انتقل لوسييه إلى مؤلفين آخرين، فأعدّ عشرات الأعمال لكبار الأسماء في عالم الكلاسيك الأوروبي، من موزار وبيتهوفن وهاندل وفيفالدي، إلى شوبان ورافيل ودوبوسي وغيرهم. لكنه عاد أكثر من مرّة إلى مؤلفه المفضّل، باخ، لتقديم المزيد من الأعمال المُعدّة بأسلوب لوسييه الذي يحمل بصمة خاصة، يمكن تمييزها بسهولة.
لمع نجمه في الستينيات، فأنجز العديد من التسجيلات التي حوت أعمالاً معروفة نسبياً للمعلم الألماني من عصر الباروك
بعد سنوات الشهرة في الستينيات والسبعينيات، تبدّلت الأسماء في ثلاثي لوسييه، في الحفلات والتسجيلات، بسبب رحيل عازف الدرامز ثم عازف الكونترباص، لكن التركيبة ظلّت ثابتة، باستثناء بعض التسجيلات التي انضمّ فيها التريو إلى أوركسترا كلاسيكية. وعام 2004، زار صاحب اللحية الخفيفة والشوارب الحليقة مرفأ اليخوت في منطقة سان جورج (مارينا) في بيروت ضمن مهرجان الجاز الذي كان يقام آنذاك في العاصمة اللبنانية (الدورة الأولى من «مهرجان الجاز العالمي في بيروت»). يومها قدّم مع فرقته برنامجاً طغى عليه التيار الكلاسيكي الانطباعي الفرنسي، أي دوبوسي ورافيل، لكنه لم يخلُ طبعاً من أعمال باخ، العنصر الثابت في جميع أمسيات الثلاثي.
لا شك في أن جاك لوسييه كانت له مساهمة في تقريب الموسيقى الكلاسيكية من الناس، وبالأخص أعمال باخ. ففي تلك الفترة، كان الجاز أكثر رواجاً على المستوى الشعبي (في فرنسا والعالم) من الكلاسيك. حتى غلان غولد اعتبر أن مشروع لوسييه مدّ الجسور بين باخ والجمهور العريض. وهذا ما يثبته إدراج بعض تسجيلاته في النسخة الجديدة من أعمال باخ الكاملة التي صدرت قبل أشهر، في الخانة المتعلّقة بالمقاربات الجازية لبعض هذه الأعمال (كما هي الحال بالنسبة إلى لوسييه) أو تجارب الجاز التي تأثرت بأسلوب العملاق الألماني في التأليف أو قصدت محاكات هذا الأسلوب. اليوم بات الجاز بدوره، بعد الكلاسيك، بحاجة إلى من يقرّبه من الناس، بعدما تراجع مستوى السمع والذائقة العامة في العالم عموماً، فمن يملأ الوظيفة التي شغُرَت برحيل هذا الوجه الأساسي في المشهد الموسيقي؟