منذ أسابيع، صدر عن الجامعة اللبنانية (كلية الفنون الجميلة والعمارة)، كتاب «العمارة في رؤى» لرفعة الجادرجي وعاصم سلام. الكتاب من إعدادي، وفي عنوانه ما يكفي لإيضاح مضمونه.وصادف صدور الكتاب، توزيع جوائز رفعة الجادرجي على مستحقيها، في الدورة التاسعة عشرة. رأيت أنه ربما يكون من المفيد، في السياق ذاته، التوقُّف عند التنظير الرئيس لرفعة الجادرجي في العمارة، وفي مراحل تحولاتها، من عصر النهضة في أوروبا، حتى يومنا هذا.
مُنحت «جائزة الجادرجي لطلبةِ العِمارة في لبنان» للمرَّةِ الاولى في عام 2000. ونقرأُ في كرَّاس الدورةِ الرابعةِ للجائزة التي مُنِحت في عام 2003 أن «مؤسسة الجادرجي تهدفُ، عَبْرَ الجائزةِ، إلى دعمِ مبادئ العِمارة الإنسانية، وهي العِمارةُ التي تُعنى بالعلاقاتِ الاجتماعيّةِ السليمة، وتشجِّع إقامةَ الصلاتِ بين المعمارِ والمجتمعِ من خلالِ ممارسةِ الأنشطةِ الثقافية، وتوزيعِ الجوائزِ على الممارسين والمنظرّين بأسلوبٍ يتوافقُ معَ أعمالِ الباحثين وغير الباحثين، ومع الطلبةِ على اختلاف مستوياتهم».
لم تأتِ هذه الفقرة من فراغ. فقد سبقها نصٌّ سمَّاه الجادرجي «مقدِّمةٌ لفهم نظرية بنيوية العمارة» كتبها في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1999.
عرضَ الجادرجي في مؤلفاته، مبادئَ هذه النظرية. وأَتْبعَ هذا العرضَ، بنصوصٍ متعدّدة، وسَّع فيها مفاهيمَ النظريَّةِ، ودعَّمها بتاريخِ العمارة بعامَّة، وبتطورُّها.
وفي هذا البحث بعضِ المبادئ الرئيسةِ للنظريَّة، التي اختار الجادرجي لتعريفها، مصطلح «جدلية العمارة».
- 1- جدليَّةُ العمارة.
تشير مقدِّمة الجادرجي المذكورةُ أعلاه، إلى أنَّ الإنسان، بخلافِ أي حيوانٍ آخر، يولَد مع نقصٍ متأصّلٍ في علاقتِه بالبيئة. يرعاهُ بدايةً المجتمعُ وأبواه، ويلقّنانه أدواتَ الاتصالِ الاجتماعي المتنوّعة. ويُصبح من واجبه بعد بُلوغِه سنَّ الرشد، اكتسابَ المرجعيَّةِ المعرفيَّةِ للجماعة، فيُصنِّع المصنَّعاتِ التي تؤمِّن له البقاءَ المُريحَ والمُمتِع. ومن بين هذه المصنَّعات، العمارة.


رفعة الجادرجي – وزارة البلديات والشؤون الريفية – بغداد 1965

ـــ 1-1- ومعَ تنوُّع المصنَّعاتِ، ونضوجِ الدماغِ، أخذَ الإنسانُ يتصوَّرُ الحاجةَ أيضاً. فنشأتْ بذلك حركةٌ جدليةٌ بين تصوُّر الحاجةِ من جهة، وبين تصوُّر المصنَّع الذي عليه أن يلبّيها، من جهةٍ أخرى. فظهرَ عَبْرَ هذا المخاضِ الطويلِ، الإنسانُ العاقلُ والواعي لموقِع وجودهِ في الزمن. فتحقَّق مع هذا الظُّهورِ المتزامنِ، تفاعلٌ بين بيولوجيَّةِ الإنسانِ والمصنَّعات، أدَّى إلى توقُّفٍ نسبيّ في تطوُّرِ الإنسانِ، بيولوجياً.
تؤلّفُ العِمارة بهذا المعنى، مقوِّماً متأصّلاً في كيانِ الإنسان. وقد أدَّى ظهورُها إلى تطوُّرِ الإنسانِ ليُصبح إنساناً عاقلاً. فهي، بهذا المعنى، أُكرّر، مقوّمٌ متأصّلٌ في سلوكيَّاتِ الإنسانِ الفرد، وأساسٌ في تكوينه البصَريّ والحِسيّ والوُجداني، وأداةٌ في الحوارِ والوئامِ في المجتمع، وفي صياغة همُومه عامة، وفي تحقيق تماسُكِه. وبقَدرِ ما يستخدمُ المجتمُع العِمارة في إِفعال حوارٍ جمعيّ شفَّافٍ، تُصبح العِمارةُ أداةً فاعلةً في تماسُكِ هذا المجتمع.
إنها في الوقت ذاتِه حاجةٌ مركَّبةٌ ثلاثيَّة المكوّنات، نفعيَّةٌ، ورمزيةٌ، وإستطيقية/ جمالية. وهي من هذا المفهوم، حاجةٌ اجتماعية، تجسّد مظهراً من مظاهِر التماسُك الاجتماعي، وأداة فعالة في تحقيقه.
الحاجةُ عند الإنسان هي مركبَّةٌ إذاً، بمكوّناتٍ ثلاثة.
فهي نفعيَّة أولاً، تؤمّن متطلّباتِ بقاء الجسد،
وهي رمزيةٌ ثانياً، تؤمّن متطلبات الهوية للفرد وللجماعة، وهي إستطيقية/ جمالية ثالثاً، تؤمّن راحة البال والمُتعةَ في الوجود.
فيها تخفيفُ الملَلِ في وعي الإنسان لوجوده، وفيها تأمين التنوُّع المنسَّقٍ، بحيثُ يتمكَّن من استحداثِ مصنَّعاتٍ جميلةٍ يُحسُّ بها.
والحاجة المركبَّة هذه، هي فرديَّة واجتماعيَّة في آن واحد. وتلبيتُها ضرورةٌ للفردِ وللمجتمع. ومع ظهورِ الوعي بالحاجة، يَظْهرُ الوعيُ بضرورةِ وجود التقنيَّةِ الملائمةِ لصُنعِ ما يلبّيها. فالتقنيَّةُ بدورِها هي اجتماعية أيضاً، في وجودِها وسيرورة أدائها. فتطوَّرتْ مع الزمنِ قدراتُ الإنسانِ المعرفيَّةِ والحسيَّة، وأخذ العقلُ يواجِهُ الفوضى القائمةَ في الطبيعةِ بالصُّورِ التي نظَّمها في مخيّلته، فحقَّق بذلكَ التنوُّعَ، وأبعدَ عنه التكرارَ المُمِلَّ. وحقَّقت المخيّلةُ بهذا التنوُّعِ، وجوداً حُرّاً من قيودِ الضَّرورة.
العمارة التقليديَّة هي من إنتاجِ الحرفيّ الرؤيويّ والمصنّع في آنٍ واحد


ـــ 1-2- يتداخلُ مع وعيِ الإنسانِ لمركَّب الحاجةِ، وعيٌ آخرٌ هو وعيُ التكنولوجية، الملائِمةِ لإنتاج الأدواتِ الضروريَّة لتلبية هذه الحاجة، أكرر مضطرَّاً. فالتكنولوجيا أو التقنيَّة، هي حاجةٌ اجتماعية أيضاً، في وجودها وفي أدائها.
ويؤلّف هذانِ الوعيانِ مستقطِبين، كلُّ واحدٍ منهما هو سببُ ظهورِ الآخر، وتطوُّرِه. ويَجمعُ الإنسانُ العاقلُ بإرادتِه وبقدراتِه المَعرفيَّة والحِسية، هذين المستقطِبين ويُنتِج المصنَّعات.
فالمصنَّعاتُ إذاً ومنها العِمارة، هي محصّلةٌ لتفاعلٍ جدليّ بين ثلاثة مقرّرات هي:
(1) الحاجةُ الاجتماعيةُ.
(2) والتقنية الاجتماعية.
(3) والإنسان العاقلُ بفكره، ومخيلته، وجسده.
فيحتلُّ الإنسان العاقلُ هنا مواقع ثلاثة هي:
(1) موقع الرؤيويُّ، الذي يعي الحاجةَ، ويتصوَّرُ الأداةَ الضروريَّةَ لتلبيتِها، كما يتصوَّرُ التقنيةَ الملائمةَ لإنتاجها.
(2) وهو المصنّعُ، الذي يحوّل المادة الخام إلى الأداةِ المطلوبة.
(3) وهو المتلقّي، الذي يستعملُ الأداةَ المصنَّعة لتلبية الحاجة.
ـــ 1-3- باستخدامِ الإنسانِ للطاقة المُناسِبةَ، يحوِّل المادةَ الخامَ إلى مصنَّعات. شرط أن تتوفّر المادَّةُ الضرورية، ويتعرَّفُ على خصائصِها، ويستعمِلُ طاقتَه لتَحويلها إلى المصنَّع المطلوب.
تتفاعلُ الحاجةُ والتقنيَّةُ جدلياً، فيظهرُ المصنَّع مادياً، مرئياً، ملموساً. ولن يكونَ الإنسانُ منتَفِعاً من ناتجِ هذا التفاعلِ فحسب، بل هو قبل ذلك دافعٌ إليه، ومحرّكٌ له. وما شكلُ المصنَّع في هذه الحالةِ، سوى محصّلة لهذا التفاعلِ الجدليّ، الذي يَفترضُ توافقاً متوازناً بين متطلّبات المقرّرين، مقرّر الحاجة، ومقرِّر التقنية. فينتُج عن هذا التوافُقِ المتوازنِ في حالِ حدوثه، شكلٌ أمثلُ للمصنَّع، أي شكلٌ يتمتَّع بصفةِ «الإبتمال» كما يسمّيها الجادرجي. وكلُّ خللٍ في هذا التوافق المتوازنِ، سيؤدّي بالضرورةِ إلى خللٍ موازٍ في شكلِ المصنَّع.
وللحرفي/ المعمار، أدوارٌ متعدّدة في تطويرِ فكرِ المجتمع. فهو يكتشِفُ الجديدَ في خصائصِ المادة، ويتصوَّرُ إثْرَ ذلكَ أَساليبَ موازيةً للتعامُلِ معها، كما يتصوَّرُ تقنياتٍ ملائمةً لهذا التعاملِ. فينتجُ عن كلّ ذلك تصوُّره بالنيابة عن المجتمع، لحاجاتٍ جديدة، يتصوَّر لها مصنَّعاتٍ ملائمةً تتميَّز بأشكالٍ جديدة، هي التعبيرُ عن إِحساسٍ جديدٍ بمركَّب الحاجة.

رفعة الجادرجي – وزارة البلديات والشؤون الريفية – بغداد 1965

والحرفيُّ/ المعمارُ هنا، هو كالفنَّان في دورِه القيادي هذا، متصوّرٌ للأشكالِ الجديدةِ المتنوعة، ومحقّقٌ لهـا، بما يجعلُ العيشَ اليوميّ للناسِ مُرِيحاً ومُمْتِعاً. وهو يُساهِم بالتالي، في جعلِ المتلقي/ الزبون، فعَّالاً في تزويدِ المعمار الرؤيويّ، بتغذيةٍ استرجاعيةٍ، تكونُ له بمثابةِ مُعطى معرفيّ، يساعدهُ في صياغةِ الدورة الإنتاجية اللاحقة.
ـــ 1-4- عقل الإنسانِ وإرادتُه، هما اللذان يقودَانِ الدورةَ الإنتاجيَّةَ، ويُحدِثان التغييرَ في بُنية المصنَّعات وفي شكلِها. وما المصنَّع كما سبقَ وذكرَ الجادرجي، سوى الأداة الماديَّة التي يَستعْمِلُها الإنسانُ العاقلُ لتلبيةِ مركَّبِ الحاجةِ لديه، ولإدامةِ وجوده.
– 2 – الدورة الإنتاجية.
ـــ 2-1- أما إنجاز المصنَّع، واستخدامُه في تلبيةِ الحاجةِ المحدَّدةِ، فيكوّنان معاً الدورةَ الإنتاجيَّةَ، التي تتألَّف من ثلاث مراحل.
(1) مرحلةُ الرؤية، وفيها الوعيُ بالحاجةِ وتهيئة عملية التصنيع.
(2) مرحلةُ التصنيعِ، حيثُ يتعامَلُ المصنّع مع خصائصِ المادةِ الخام، مستخدِمـاً طاقـةً تُحوّلُها إلى مصنَّعٍ، له شكـلٌ محدد.
(3) مرحلة التلقّي، حيث يستخدِمُ المتلقّي المصنَّعَ تلبيةً لحاجته المحدَّدة.
وتنتهي الدورة الإنتاجية بتقويم مقدارِ تطابق المصنَّع بنيةً وشكلاً، مع متطلبات الحاجة.
ويُطلِقُ الجادرجي على تقويم مقدار الوعي بهذا التطابق، كمفهومٍ، مُصطَلَحُ:
التغذيةِ المُرجَعةِ للدورةِ الإنتاجيَّةِ اللاحقة.
تشكّل الدورةُ الإنتاجيةُ محصّلةَ تفاعلِ المؤدّي بصفَتِه رُؤيوياً ومُصنّعاً ومُتلقّ، مع المادةِ الخامِ بدايةً، ومع المصنَّع لاحقاً، أثناء استخدامه هذا المصنَّع تلبيةً لحاجته. فيكتسبُ المؤدّي في المراحلِ الثلاثْ المذكورةِ، معرفةً ينقلُها إلى المجتمعِ، عن طريقِ اللغةِ وأدواتِ الاتصالِ الأخرى من جهة، وعن طريق معالمَ ماديَّةٍ يحمِلُها المصنَّع، وفيها مضامين معرفيةٌ ومعنويةٌ وعاطفيةٌ، تُلبّي الحاجاتِ الثلاث. ويُطلقُ الجادرجي على نقل المعلومات هذه، مصطلح: سيميائية الدورة الإنتاجية.
ـــ 2-2- فالإنسانُ الفردُ في عمليَّة التفاعُلِ هذه، هو رؤيويٌّ أولاً يعي الحاجة، ويتصوَّرُ أداةَ تلبيتِها كما يتصوَّرُ طريقةَ تَصنيعِها، وهو مصنّعٌ ثانياً، يعالجُ المادة الخام بطاقته ويجسّدها في مصنَّعٍ- أداةٍ، يستعملُها لتلبية الحاجة.
أمَّا المعمارُ في العمليَّة ذاتها، فهو الفردُ الممتهِنُ الذي يؤدّي نيابةً عن الجماعةِ، دورَ الرؤيويّ والمصِنّع. هكذا كان دورُه في المجتمعِ التقليديّ. أما في المجتمع المعاصِر، فقد انحصرَ دورُه في الوظيفة الرؤيوية.
ـــ 2-3- ولتحقيق عِمارةٍ إنسانية شرطان: الأولُ، هو شفافيَّةُ الحوارِ الجماعيّ، والثاني، أن يُحقّق فيها المعمارُ الرؤيويُّ والمصنِّع، البنيةَ الملائمة والشكلَ المناسبَ، وهذا ما يسمِّيه الجادرجي صفة الإبتمال (optimality). أي أن يتحقَّق في العمارة – المصنَّع، توازنٌ أمثل بين كميَّةِ الطاقةِ المبذولةِ، وبين قدرتها كمصنَّع على تلبيةِ الحاجة إليها، نوعاً وكماً.
ـــ 2-4- ويجزمُ الجادرجي بأن «العمارة التقليدية» قد ظهرَت مع الإنسانِ العاقلِ، واستمرَّت حتى مطلعِ عصر النهضة في أوروبا، في بداية القرن الخامس عشر.
وأهم صفاتِ هذه العِمارة، كان يحقّقها الحرفيُّ بصفتِه رؤيوياً ومصنّعاً. وكان للمتلقّي في تلك المرحلةِ، دورٌ فعَّال في مختلفِ مراحلِ الإنتاج. وقام كلُّ مؤدّ بدوره كاملاً، رؤيوياً كان، أو مصنّعاً، أو متلقّياً. فانسابت المعرفةُ بشكلٍ سلسٍ وشفَّافٍ بين مختلفِ مراحلِ الإنتاج، وحقَّقت حالةً تماسَك فيها المجتمعُ، وتعاطَفَ مع العِمارة.
أمَّا المعمار، يؤكّدُ الجادرجي مكرِّراً، فهو الإنسان الممتهنُ، الذي يؤدّي نيابةً عن الجماعةِ، دورَ الرؤيوي والمصنّع في المجتمعِ التقليدي، ودور الرؤيويّ فقط في المجتمعِ المُعاصر. وله في الحالتين دورٌ بارزٌ في تطويرِ الوعيِ الاجتماعيّ. فهو يكتشفُ خصائصَ جديدة للمادةِ، ويستحدِثُ بالتالي تقنيَّاتٍ جديدةً للتعامُل معها، تُعطيه القدرةَ على تقديم رؤىً مستحدَثةٍ، تلبِّي الحاجات الجديدة للمجتمع. وبما أن العِمارة، كسائر المصنَّعات، هي ظاهرةٌ متأصّلةٌ في تكوينِ فكرِ الإنسان، ففي ترقيتها ترقيةٌ للبيئةِ المصنَّعةِ التي تحتضنُ الجماعةَ في عيشها اليومي. وفي تلوُّثها، تلوُّثٌ لهذه البيئة. وعلى المعمارِ، حِرَفياً كان أو أكاديمياً معاصراً، أن يعي أهميَّةَ دوره في قيادةِ جدليَّةِ الدورةِ الإنتاجيَّةِ، وفي تفعيلِ الإحساس الإستطيقي/الجمالي وإنضاجه عند الجماعة.
فالمسؤوليةُ إذاً، هي مسؤوليةٌ إنسانية، والقيادةُ فيها هي شديدةُ التعقيد. فهي إرادةٌ حرَّة عند المعمار الرؤيوي، لا تقيّدها استراتيجياتٌ بيولوجية موروثة، إلا أنها مقيّدة بجدليةِ التعامل مع خصائص المادة، من جهةٍ أخرى.
ـــ 2-5- تتعدَّدُ أدوارُ الإنسانِ الفردِ في الدورةِ الإنتاجيةِ إذاً، وتتعدَّدُ مواقفُه فيها. وبقدر ما يكونُ مُتَعاطِفاً مع همومِ الجماعةِ في أيّ من هذه المواقعِ أو الأدوارِ، تتحَّقق الشفافيةُ في الحوار الجماعي، ويسودُ المجتمعَ تماسكٌ وإلفةٌ إنسانيَّان. ولا تستقيمُ الدورة الإنتاجيةُ في مسارِها وفي نتائجها، إلا إذا تحقَّقت كلُّ مرحلةٍ منها بتوازنٍ أمثلٍ بين مكوّناتها. أي إذا اتصفت «بالإبتمال» كما يرى الجادرجي (optimality). وقيمةُ الإبتمال، لا تزولُ مع الزمن فهي قيمةٌ كونيَّة، لأنها قيمةُ تَوازنٍ وليست قيمة استعمالٍ، أي قيمةُ تلبية. ولا يكونُ للعِمارة قيمةٌ كونيَّة تمتدُّ في الزمن، إلا إذا كان تحقيقُها مبتملاً، أي أمثل. وتتحقَّق صفةُ «الإبتمال» في مرحلتي الرؤيوية والتصنيع. أما التعاملُ المناسبُ معها، فيتمُّ في مرحلة التلِقّي.

رفعة الجادرجي – دائرة الإحصاء المركزي – بغداد 1973

ـــ 2-6- وُجدَت العِمارةُ التقليديَّة مع الإنسانِ العاقل. واستمرَّت صيرورُتها التقنية حتى بدايةِ عصر النهضة في أوروبا، أي في مطلع القرن الخامس عشر. ويكرّر الجادرجي مؤكّداً مرَّة أخرى، أنَّ العمارة التقليديَّة هي من إنتاجِ الحرفيّ الرؤيويّ والمصنّع في آنٍ واحد، وأنَّ المتلقّي كان أداؤُه جيداً، ودوره فعَّالاً، وعلاقته بالحرفيّ الرؤيويّ والمصنّع كانت علاقةً شفَّافة. وأن كلَّ ذلك قد حقَّقَ انسياب المعرفةِ بين مراحِلِ الإنتاج، كما حقَّق تماسُكَ المجتمع.
فتطوُّر المقرّرين في الدورة الإنتاجية (الرؤية والتصنيع)، كان تطوراً بطيئاً. لأن الجماعةَ كانت مُنغلِقةً على ذاتِها، ومحْتبَسَةً داخل شبكةِ الكلجريات (الثقافات cultures) العائلية والقبلية والدينية. والتغيير في شكل المصنَّعات كان بطيئاً بدوره، مما مكَّن الناس من استيعابِ دلالاتِ المتغيرّات في شكلِ المصنَّعات بسهولة.
فغالبُ الإنتاجِ يُبنى على علاقاتٍ سبريانية cybernetic، قوامُها تعامُلُ الحرفيّ مع المادة، مستخدماً أدواتٍ يدوية بسيطة يستنفد فيها طاقتَه. أما معرفةُ الحرفيّ بالمادة، فتنحصرُ بإحساسه بخصائصها، بعيداً عن المعرفةِ العلمية الدقيقة. إنها معرفةٌ حسِيّةٌ حدْسيةٌ، سيطبعُ بها الحرفيُّ مصنّعاتِه، بما يجعلُ التعاملَ مع هذه المصنَّعات، كأنه تعاملٌ شخصيٌّ مع الحرفيّ مصنّعِها.
أنتجت سلبياتُ الحداثةِ تلوُّثَ البيئةِ المبنيَّة، فعمَّ هذا التلوُّث مختلف أرجاء العالم، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية


لا يمنحُ الإنسانُ الفردُ صفةَ الإبتمال لأشكالِ المصنّعات. فصفةُ الإبتمال هذه، إذا وُجِدت، هي علاقةٌ موضوعية قائمةٌ في تكوينِ شكلِ المصنَّع، يعيها ويُحسُ بها الإنسانُ الفرد. وهي بالتالي ليست إحساساً ذاتياً، بل هي قبل ذلك، إحساسٌ بشيء قائمٍ موجود. فالإيدولوجيات يتم تصوُّرها، وتزولُ مع حلول الإيديولوجيات التي تليها. لكنَّ الشكلَ الذي يحمِلُ صفَةَ الإبتمال يمتدُّ وجودُه في الزمن، لأن الإحساسَ بصفةِ الإبتمال يؤلّف قاعدةَ منطقِ تعاملِ العقلِ مع الظواهر. فالعقلُ هو الذي يتصوَّر، وهو الذي يتجاوزُ ما تمَّ تصوُّره. لكنَّه لا يتمكَّن من تجاوزِ منطقِ تعامله مع المادة في سيرورة التصنيع. فهذا المنطِقُ هو موضوعيٌّ، متوافقٌ مع متطلّباتِ خصائصِ المادة الثابتة.
صفةُ الإبتمال إذاً تمتد في الزمن، في حين أن وجود الإيديولوجيات، يروّجُ أشكالاً معينة. ووجود هذه الأيديولوجيَّات إذاً، وبقاؤها، مشروطان بالتقدُّم الحضاري.
- 3 - العمارة الحرفية والممكننة.
ـــ 3-1- ظهرت العمارةُ التقليديةُ الحرفية مع الإنسانِ العاقلِ، كما ذكر الجادرجي في أماكن متعدِّدة من كتاباته، واستمرَّت حتى مطلعِ عصر النهضة، في أوروبا، في أوائل القرن الخامس عشر. وطوال هذه المرحلة أي قبلَ النهضة، وقبل المكننة والثورات الصناعية المتلاحقة، كان الحرفيُّ البنَّاء في المجتمعِ، رؤيوياً ومصنّعاً. في حين كان سائرُ أفرادِ المجتمع متلقّياً، متساوي المعرفة.
فكان الرؤيوي جيداً، والمصنّع جيداً، والمتلقّي جيداً أيضاً، فأتت العمارة بفعل ذلك جيّدةً. إذ انسابتِ المعرفةُ بسلاسةٍ وشفافيَّةٍ بين مراحل الإنتاج، يؤكّد الجادرجي مجدَّداً، وتحقَّقتْ بذلك تغذيةٌ استرجاعيةٌ مناسبة لمرحلَتَيْ الرؤية والتصنيع، مما أنتجَ تعاطُفاً مع العمارةِ وتماسُكاً اجتماعيّاً.
أما المكننة، فقد ظهرت في أواخرِ القرن الثامن عشر في أوروبا، وأحدثت تغييراً جذرياً باعتماد التصنيع في الأَعمال المعمارية. فبُنيت الجسورُ، والمعارضُ، والبيوتُ الزجاجية، من الحديد الصبّ المصنَّع حديثاً. وأخذتِ العِمارةُ لأولِ مرَّةٍ، شكلاً متوافقاً مع العلاقة الجدلية بين المادَّةِ الجديدةِ المُستعملةِ وطُرقِ تَصنيعِها من جهة، ومع الحاجات المستحدثةِ من جهةٍ أخرى. بهذا تأسَّست في أوروبا، المبادئُ التكوينية الأوَّلية للعمارة الحديثة.
ـــ 3-2- وانطلاقاً من هاجس التوجُّه إلى الطلبةِ، ومن النهجِ التعليمي ذاتِه، يُعالج الجادرجي مسألة ظهورِ الفائضِ في الإنتاج، وهو أحدُ نتَائجِ المكنَنَة. تميَّز الإنسانُ عَبْرَ المكننة ــ يشدّدُ الجادرجي ــ بالقدرةِ على إنتاج الفائضِ من المصنَّعات. والفائضُ يُفسح في المجالِ للتجربة، والتنويع، والإِسراف. وعندما أسرفَتْ حضاراتُ المجتمعِ التقليدي في تشييد القصورِ ودورِ العبادةِ، استخدمَت في ذلك التقنيات الأكثر تقدماً، والحرفيين الأكثر مهارة، فجاءتْ هذه المنشآتُ بالضرورةِ، متَّسمةً بصفةِ الإبتمال، التي أكسبتها قيمةً إستطيقية/ جمالية واضحةً، أضيفت إلى قيمتِها الرئيسَة وهي القيمةُ الرمزية، فاعتبرها المجتمعُ ضروريَّة.
حقَّق الإسرافُ في الإنفاقِ، بذلك، أشكالاً حملت تلقائياً صفةَ إبتمالٍ متميِّزة. ثم جاء الإنتاج الممَكْننُ، وقدَّم للمجتمع كماً هائلاً من الفائضِ، حقَّقته المكننةُ التي يقودُها عقلٌ جديد. فغيَّر الفائضُ موقِعَ الإنتاجِ في تنظيمِ المجتمعِ، واختصرَ كمَّ الوقتِ الضروريّ، لإنتاجِ المأكلِ والملجأ الضرورين لتأمين الوجود. فلم يعد الإنتاجُ يتَّصف بالضرورةِ بصفة الابتمال. فتكررت الدوراتُ الإنتاجية الفاسدةُ، والتي لم تكن لتحدُثَ في الإنتاج التقليدي.
وعند ظهورِ المكننَةِ، لم يكن المجتمعُ مهيّأ للتعاملِ معها، ففقد المؤدّي قُدرتَه، على التعاملِ بطريقةٍ مناسبةٍ لموقِعه ضمنَ مراحل الدورة الإنتاجية. وعجَزَ المجتمع نتيجةً لذلك، عن تحقيق صفة الإبتمال في المصنَّعات التي ينتِجُها، وتعطلَّت قدراتُ الإحساسِ بصفة الإبتمال عنده، والاستمتاعِ بها كضرورةٍ وجودية. فظهرتْ بفِعْلِ ذلك كلّه، مصنَّعاتٌ لا تحمل صفة الإبتمال، وتمَّ قبولها من المجتمع من دون أن يعي أنها ملوَّثة. وهكذا، يقولُ الجادرجي مرة أخرى، أنتجت سلبياتُ الحداثةِ تلوُّثَ البيئةِ المبنيَّة، فعمَّ هذا التلوُّثُ مختلفَ أرجاءِ العالم، خاصةً بعد الحربِ العالمية الثانية.

* معمار لبناني