التدفق، الاختراق، الحرارة، البراءة، واللاصنعة هي شعر أُنسي الحاج. إنّه الكلام البكر قبل أن يُزين، الصورة بلا إطار، الوردة قبل أن تُحبس في مزهريّة. بل هو الكهرباء التي سرت في جسد الشعر العربي الحديث فأضاءت وكشفت وغيّرت. لا ديكور ولا زخرف ولا تلفيق، بل الفوران الآتي من الانبثاق، العفوية، اللسعة الوهّاجة للجسد حين يجنُّ ويحنُّ ويشتعل. الكتابة الملتزمة كتابة أُنسي، التزام الرفعة والحق والمحبّة، والانحياز الكامل للجمال خلاصاً وحيداً للإنسانية لا السياسة ولا الاقتصاد. هو صاحب الأفق الصّعب والموقف الصّعب. رجل الكلام ورجل الصّمت أيضاً. وما بينهما من عمق وتأمّل وعرفان. وما قبلها وبعدها من ثقافة وتواضع ونزق وغضب ورقّة ونقد للذات يصل إلى حدود الجَلد، ومن احتفاء أصيل بالحياة وخلاصاتها التي بادلته الوفاء فمنحتهُ حكمتها.
■ ■ ■

يمثل أُنسي الحاج نموذجاً رفيعاً للتجربة الأدبية «الكاملة»، كل ما كتبه من شعر ونثر ونقد وصحافة كان يكمّل بعضه بعضاً، متطابقاً مع التجربة الروحية الداخلية للكاتب، كان يشبه كلامه، لا غربة أو مسافة بينهما، قالها مراراً في حواراته وبثّها في أفكاره: «كلامي هو ما أنا عليه، فلا تحملونا أكثر مما حملتنا الدنيا من رعب». هكذا أرى شعره، بالأخص «لن» و«الرأس المقطوع»... شعر وهو نارٌ «تتفجّر كصعداء. كروح كائن نفد صبره فراح يلعن» كانت اللعنة الرحمانية. الهشاشة ضد الجزالة. اللعثمة ضد البلاغة. الشك بدل اليقين. لغة مقطوعة، غير سائدة، وحشية، عمادها الصدمة والصلابة والذهاب بالكلمة للأقاصي. لينتقل بعدها لتجريب واختبار معرفة لغويّة أخرى في «ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة» ومحاولة تخليص اللغة من بعدها البلاغي باجتراح العودة إلى بكرية اللغة وانفعالها.


وليستمر في كل مشاغله الباقية يبتكر مع كلّ مجموعة نظامها اللغوي الخاص وفضاءها الدلالي والمعجمي، لكنه لم يركن إلى وصفة جاهزة أو يطمئن لقالب مستقر. روحه المضطربة، التواقة، ظلت تتطلع إلى التجدد، كأن الابتكار هروب، كأن البدايات غاية. ظل في مجاميعه كلها يبحث عن علاقة تعميق مع المفردة لا تنويع واجترار.
ومثل ذلك وأكثر يصح على الالتماعات الفذّة والخلاصات الإنسانية في «خواتمه» التي أراها إلى الآن، قارة غير مكتشفة. ذلك المزج المعجز بين حدود الشعر والنثر والفلسفة والفكر، القوس المشدود بين الحادثة اليوميّة والتعليق عليها، وبين الرؤى والخلاصات العليا المحكمة والمدهشة، حتى ليحار القارئ في قدرة أنسي العجيبة على الاستمرار والإطلالة كل أسبوع عبر زاوية السبت في «الأخبار» بهذا التدفق الهدّار كنهر جارف مترع بحياة طازجة وصاخب بالكلمات التي تلبط في موجاته، كأسماك من ذهب.
■ ■ ■

كنت أنتظر السبت لأقرأ أُنسي، بمرور الوقت وتراكم اللقاءات تحول الانتظار إلى طقس سحري، أنتظره كمن يترقب لقاء صديق حميم. كانت له القدرة على اختراق فارق العمر واختلاف الأجيال والأمزجة. يهمس برقة لي وإلى الآلاف غيري في وقت واحد من على شاشة الكومبيوتر، فيمس عصباً ما خفياً في الروح ويوقظ فيها سؤالاً وتطلعاً وسكينة. وكم من مرّة أردتُ ترك تعليق صغير في خانة القرّاء علّه يصل. لكني نهرت نفسي دائماً. أي وقاحة عندي لأخاطب هذا الكائن؟ أي كلمات ستفي وهو رسول الكلمات الصافية حتى الينابيع؟ كيف تهدى زهرة إلى غابة زهور؟ كيف يُكلم النور وتُشكر الدعة؟ يا للخيبة... لم أخبره، على الأقل، كم كانت كلماته تخفف عليّ وقع الموت العراقيّ اليوميّ وفجائع السيارات المفخخة وأخبار الفساد والتناحر. وكم أنا نادم على جبني وترددي. كنت أهرب من جحيم الشارع إلى نعمى العالم الذي صنعه أُنسي بالكلمات، وكان هذا العالم كافياً لأمثالي، حانياً ورحيماً كحضن أم.
■ ■ ■

أنسي أيضاً كان صمام أمان قيم في زمن الشح، منها أنه المعلم الرافض أي تعالٍ على قارئه، الناقد الناقم على نفسه، المحتفي كرماً بالجميع، ظل تواضعه ونكرانه لذاته بل التحرر العجيب من خيلاء النجومية وكارزميتها يرفعه خارج المقارنات والحسابات، وأظن الكثيرين يحسدون قدرته على قمع نفسه، هل تتذكرون حين أوصانا أخيراً ألا نسعى للانتصار؟ «ما من شيء بعد النصر إلا القبر». هذا الوعي العميق والانحياز التام للمسحوق والمهزوم والمنكسر في الحياة جعله أيقونة أرضية بقدر ما رفعه مَلَكاً يخفق بجناحين من رأفة وبصيرة.
■ ■ ■

إنني أفتقد صديقي الذي لم أره يوماً. وأنادي عليه كما نادى مرّة على اليسوع بنصه التاريخي عام 1967 وأقول له: احضر حالاً يا أُنسي... حصلت أشياء كثيرة بعدك نريد أن تقول شيئاً فيها. زَحَف ظلام فدع نور كلماتك يندلع ويبدده. توحشت غربة فقل شيئاً يُسكّن وجعها. «الجميع بانتظارك والأهل والأقارب ليسوا في خير». أصدقاؤك ينتظرون السبت، كل سبت، لكنك لا تجيء معه. قل لنا ماذا نفعل بالوردة؟ وأي وليمة نهرب منها وقد صار العالم كله ولائم دم ورعب؟ دلنا على مَن يفرك الخمول عن الخواتم. ومن أين تشرق «شمس العودة»؟ لم يزل وقت يا معلم. لا دليل في الطريق. هذه ليست النهاية. فتعال. «في ظلام النهاية جلستُ أكتب البداية./ في دم الأرض غمَسْتُ ريشةَ السماء./ وأقول للموت الداخل:/ ادخل! لن تجد أحداً هنا» («الوليمة»).

*شاعر عراقي