حين نصل إلى غاليري «جانين ربيز» (الروشة ــ بيروت) سنشعر بأن هناك خطأ في موعد الزيارة، ربما بسبب الأسود الذي يغطّي بابها الزجاجي على غير عادة. نحن أخيراً، بعد قرع الجرس، وسط غرفة معتمة. تنبعث إضاءة خافتة من صور معلّقة على جدرانها داخل علب ضوئيّة. فضاء معرض Underbelly للارا تابت (1983) يتقاسم رهبته مع صور بيروت في الليل. منحدر الرملة البيضاء. خيمة السيرك الحمراء في شارع أرمينيا آخر مار مخايل. صفّ المباني المضاءة المرئية من صحراء البيال حيث طمر البحر قبل ثلاثة عقود. ما يجمع بينها أنها مناطق تقع على أطراف بيروت وفي ضواح قد تبدو مألوفة للمتفرّج. رغم ذلك، تنأى تابت ببعض الزوايا عن هيكلها المديني، في كادرات تحافظ فيها بحساسية على منبت الضوء المنسلّ من لمبات الشارع والسماء والبنايات.
من المعرض

قد نشعر أنها أماكن لا تتسع إلا لنزهات ليلية متمهلة وخفرة، كما في صورة لواجهات محال مقفلة، وأخرى لشجرة تطلع وحيدة من الشارع على مرأى من طيف مدينة بعيدة. سنلحظ في الزوايا كتلاً لحميّة، لا لأننا اقتربنا من الصور فحسب، بل لأن الإضاءة الخافتة، والخواء التام كانا قد فعّلا حاسة شمّ الجثث عندنا. بعيداً عن أي وعي جاهز عن صورة بيروت، تعتني المصوّرة بسينوغرافيا مشاهدها. خياراتها تفرج عن تنبّه نقدي لشروخات المدينة وجدرانها: الدواليب والتلال الرمليّة والكتل الإسمنتية التي تجاور البحر. كأنها تبحث عن بقع لها السعة على احتواء القدر الأكبر من القلق. أجساد الشابات ملقاة بين الحشائش، نائمة على الطرقات وأمام البحر وورش العمار. تصيّدهن القاتل المتسلسل نفسه على الأغلب، وفق القصة المتخيلة التي يقدّمها المعرض. ها هي الرهبة التي قابلنا بها المشاهد سابقاً تجد تبريرها في هذه السرديّة. بالاستناد إلى رواية «2666» للكاتب التشيلي روبرتو بولانيو (1953 ــ 2003)، تصنع المصوّرة التي نالت أخيراً «جائزة متحف سرسق» في «صالون الخريف» صورتها من عناصر ألفناها في أعمالها السابقة. في «القصب» وقعت عدستها على آخر المساحات المتروكة في بيروت. هناك، تكتسي البؤر العشبيّة على حافّة البحر بأجساد زوّار المساء وعريهم وهم يخترقون الفضاء العام بممارساتهم الجنسية. هذا العمل تحديداً ضمّ الملامح الأساسيّة لمشروعها الفوتوغرافي الذي تلتبس فيه الحدود بين العام والخاص، وبين السياسي والحميمي، في صور تبتلع المصوّر، فلا تعود المسافة مع مادّته مرئيّة.


دخلت تابت المشهد مراراً كما في مجموعة Penelopes، التي اختبرت فيها الحداد مع نساء فقدن أفراداً ذكوراً من عائلاتهن، نتجت عنها صور التقطت داخل بيوتهن المهدّدة بالهدم والإخلاء في منطقة مار مخايل.
لدى بولانيو، في روايته البوليسيّة، مدينة متخيّلة تدعى سانتا تيريزا، ولدى تابت مدينة حقيقيّة (لا نعود ندري كم هي كذلك بعد رؤية الصور) اسمها بيروت. كأنما بتدخّلها الجثثي، تهزّ الاسمنت والأرصفة والعشب الضئيل. تقترح سبلاً جديدة لرؤيتها ضمن سياق خيالي، يستنطق عنفها اليومي في الوقت نفسه. لا بالنظر وحده تقابل الصور، بل بالترقّب والحذر والالتفاتات المتتالية إلى الخلف. صورها تقدّم لنا جسدين: جسداً للمدينة، وجسداً ضائعاً ميتاً فيها. أيّهما الميّت حقّاً؟ تتقلّب الشابات المقتولات في وضعيّاتهن شبه عاريات أحياناً أمام طبقات مدينية غامضة. مقابل هذا التكثيف البصري، يستفيض كاتالوغ المعرض في وصف حالاتهن بعد الجريمة بحيادية. نقرأ عن أنواع الاعتداءات التي تعرّضن لها، ومعظمها اغتصاب وضرب وندوب تغور في الجسد.
تستلهم صورة بيروت البوليسية من رواية «2666» للتشيلي روبرتو بولانيو

يتيح الطرح القصصي المتخيّل لها القفز عن الحدود بين أساليب ووظائف مختلفة من التصوير. التداخل بين التوثيق المديني، والتمثيل الخيالي يكتنز السؤال الأساسي للمعرض حول علاقتنا مع المدينة. لا تعُد المدينة مجرّد كتل اسمنتيّة، فهي ليست قائمة على العلاقة الماديّة بها وحدها، إنها آتية أيضاً من الوعي الذي نستمدّه من صورها وتمثيلاتها البصريّة. على سطح صورة تابت، تتفاقم صور كثيرة تختصر سمات كثيرة للفوتوغرافيا، وقدراتها النافذة على الأسطرة والخيال ونقل الواقع والتلاعب به وتحويره في الوقت نفسه. بخلاف الكثير من الأعمال المعاصرة التي تغيّب الشكل على حساب المفهوم، تحتفظ الفنانة بهامش للتجريب في استخدامات التصوير ومفاهيمه من دون أن ينتقص ذلك من جماليّة الصورة نفسها. في آخر الغاليري، هناك ست لقطات لمشاهد عبثية مقرّبة على تفاصيل وبقايا من مسرح الجريمة، تواصل فيها اختبار وظائف أخرى للفوتوغرافيا كأداة في الجرائم والأبحاث الجنائيّة.

من المعرض

أرفقت تابت العلب الضوئية، بصور مجهريّة لإفرازات بشريّة سائلة عثر عليها في مسرح الجريمة كاللعاب والمني، والدم، والسوائل المهبليّة، والبول. رغم إحالتها العلميّة إلى الجريمة، فإن هذه الصور تعزّز من الحضور الجسدي في صورها، أو الحضور السياسي للجسد، خصوصاً أن الضحايا هن من النساء. تسعى تابت لأن تجعل هذا العنف الذي يصيب الأجساد الهامشية في بيروت، منها الأنثوية، مرئياً وقريباً. في النهاية، كانت الفنانة تجول في بيروت ليلاً لترمي فيها أجسادنا لا أجساد نسائها. تدسّ جثثنا في الزوايا، كمن يتحسّس جسد المدينة ليتأكد ما إذا كان لا يزال حياً.

* Underbelly للارا تابت: حتى 20 شباط (فبراير) ـــ غاليري «جانين ربيز» (الروشة ــ بيروت). للاستعلام: 01/345213