في نيويورك، كل المجانين والممرورين قد أطلق سراحهم. أطلقوا في أرجاء المدينة، فبات يصعب التمييز بينهم وبين الرافضين من «البانك» أو الزُعَّار أو مدمني المخدرات والكحول البؤساء الذين يتكاثرون فيها. إذ لا يعقل أن تعتمد مدينة بمثل هذا الجنون أن تطرح من حياتها العامة مثل هذه النماذج لعَتَه قد غَلَب في أشكال مختلفة، على أجواء المدينة (...)نيويورك، نيويورك (جان بودريار ــ ترجمة بسام حجار)

لا نعرف ما الذي أحبّه أكثر. الشِّعر ينتهي وبسام حجار عرف ذلك، فقبل بالنهايات. التفّ على الشِّعر بالترجمة، ولكنه لم يكن يستدرك قطاراً تأخر، أو يبدأ مشروعاً جديداً. يقول إن بعض الرواة، رواة القصص، لا يكتبون إلا سيرتهم، مراراً وتكراراً. وكأنه بذلك يلتف على نفسه أيضاً، من دون أن نشعر، ويبقى في مكانهِ. ويشرح: «وللمفارقة، بياناً، تروي السيرة كل مرة مختلفة، أو على سوية مغايرة. ويعجب القارئ، الذي هو نحن، كيف للسيرة الواحدة أن تضاعف أوجه عيشها كمثلِ ما يتضاعف الوجه تكراراً في المرايا المتعاكسة». هكذا، وفي أحيانٍ أخرى كثيرة، يبرر بسام حجار ما يعرف أنه ليس بحاجةٍ إلى تبريره: الخيانة. والخيانة دائماً هي خيانة النص والمرايا. والترجمة خيانة الأصل مثلما يكون العابر والزائر خيانة الدوام. والنثر خيانة الشعر. لكن، ما الشعر؟
رغم قوة نصوصه وفرادتها، لم ينف بسام حجار في حياته حاجة الأدب إلى الفلسفة، ولذلك كان يرى أن الرواية تقوم شكلاً ومضموناً، على نفي السببية العقلانية نفياً قاطعاً. ما لا يعرفه كثيرون أنه ترجم بول ريكور ومارتن هايدغر لكن ذلك لم يكن ضدّ الأدب، بل كان جزءاً من عالمه أو أحد عوالمهِ. والعارف بالفلسفة لن يفكّر مرتين قبل أن يحزر مختارات بسام حجار في المُختَارين: وظيفة اللغة في الروح. ما لا يعرفه كثيرون، أنه في الترجمة، أكمل طريق الشِّعر. مرآة واحدة. وما يقوله عن رامبو بدهاء ينسحب عليه: «لرامبو سيرتان. الأولى حين توقف عن الشعر». وليس لرجلٍ عابر ما يقوله. ما لديه هو سعي متمادٍ وراء خيانة الشِّعر بنثر الحياة. مما لا شك فيه، أنه عندما مدح حجار خيانة النثر للشِّعر كان في مزاج جيد. لقد صدر «مديح الخيانة» في 1997. وكان مديحاً لائقاً بالمحتفى بهِ، وبصاحب المديح وصاحبها، الشاعر والمترجم. ومن باب المديح أيضاً، يوضع الشاعر قبل المترجم في مقامات الوصف، غير أن الذات واحدة، وأن صاحبها ضدّ التبرير الواقع. بالنسبة لكثيرين كان هذا الكتاب مقدمة ضرورية من بسام حجار، لما هو آتٍ، فهذا الكتاب صدر قبل عقد بالضبط من صدور «الوقت لا ينقضي»، ومن ظهور «شمس آل سكورتا» بالعربية، وغيرها من الكتب التي ترجمها حجار. لكن في الواقع «مديح الخيانة» يأتي في السياق نفسه، ويمكن اعتباره هوامش ارتأى كاتبها أن توضع في مكانها. لطالما رفض بسام حجار أن يكون «مادة للتحليل» أو أن يأخذ إذناً من أحد... لكي ينظر في المرآة. مع ذلك، قد تجد مقالاً اعتبره صاحبه مقالاً «تحليلياً» أخذ يحلل شخصيات الروايات التي ترجمها بسام حجار، وراح يفكّر لماذا ترجم هذه الرواية أو تلك. ذلك الإمعان في الدخول إلى عالم الرجل الذي أراد طوال حياته أن ندع مرآته وشأنها.
بسام حجار الشاعر هو المترجم. وقد ترجم نفسه أولاً بالشِعر، ثم انصرف لترجمة الآخرين. وهذا ما نعرفه جميعاً. لكن الإنصاف يقتضي قراءة السيرتين بتأنٍ. تجربته في الترجمة نضجت مثل تجربته في الشِّعر. بيوغرافيا الجوع وجبل الروح وأزاهير الخراب كنصوص استوت على مهل وتختلف عن سيرة مارلين مونرو وعن ترجمته لسالنجر أو كالفينو. وليس من السهل أن يكون للمرء سيرتان، متوازيتان، كالرجل وظلّهِ، كالعابر إلى الصمت.