بدأت «دار قنبز» عملها قبل سنوات، من مشاغل كثيرة تجاوزت أدب الطفل، نحو إشكاليّات اللغة العربيّة نفسها، ونقاشاتها التقليدية والحديثة. تصرّ مؤسّسة الدار ومحررتها ندين ر.ل. توما على تسمية «أدب» الطفل، كما لو أنها تحرّره من العزل السهل، وتتقدم به إلى مجال الأدب الأشمل. أو كأنها تختصر عمل الدار التي لا تتردّد، بحجّة التوجّه إلى الأطفال، في استكشاف طبقات اللغة ووجوهها ولهجاتها، واقتراح طرق معاصرة لتعليمها وقراءتها لغوياً وبصرياً وسمعياً. البحث والتجريب والخيال (لا الجوائز) هي ما صنع التجربة المتفرّدة للدار البيروتيّة في مجال النشر والكتابة للطفل بالعربيّة، أضيفت إليها السنة الفائتة مجموعة من المؤلفات والأدوات التعليميّة يندرج معظمها ضمن مشروع «مدار قنبز» (مُحرِّك ومُفعِّل تربوي مُتعدِّد الـمحاور، مُطِّور لموارد عربية).
«مدوار قنبز»

نقطة الكون
يقترح كتاب «نقطة ورا نقطة» بداية للكون بلا قوى خارقة تيبّس الخيال. مجرّد بقعة ضوء لم يلتفت إليها أحد لوقت طويل. «كان في نقطة ضوّ، زغيره زغيره زغيره، منسيّة على الزّمان، قدّ ما زغيرة، ما حدا كان شايفها، ولا سامعها ولا حاسس بوجودها...». نقطة فوق نقطة. هكذا ستطلع الشمس ثم القمر والنجوم والشهب والبحر. من العناصر الطبيعية والكواكب تبني ندين توما حكايتها، برفقة تصاميم لين شرف الدين. لم تُضأ الشمس إلا حين تنبّه إليها الزمان. اقتَطعت الشمس نقطة منها، فصنعت قمراً. كذلك فعل القمر، فلمعت نجمة في السماء. تبدأ بينهما قصّة حبّ، لتملأ السماء ملايين النجوم. تحلم النجمة فتصير شهباً سيسقط في سماء ثانية هي البحر. أنسنة الأشياء والعناصر والكواكب، ليست كلّ ما في القصة. تقتبس توما من الإنسان خصاله الشاعريّة والحلميّة لسرد رواية للخلق، مستقلّة عن السرديات اليقينية.
من كتاب «نقطة ورا نقطة»

تستثمر فسحة الأدب إلى آخرها، فتقدّم قصّة يتداخل فيها الخيال ببعض الحقائق العلميّة عن الأفلاك والكواكب في قالب حكائيّ بسيط يستعين بلغة الجدّات المحكيّة اللبنانية. وإذ تستهلّ الحكاية بالفاتحة التقليديّة «كان يا ما كان»، إلا أن توما التي هي سليلة حكواتيات محليات، تنصرف إلى السؤال عن أصل هذين المكان والزمان، وإلى أسئلة الخلق وبداية البدايات. برفقة السرد السيال والشاعري، يأتي تصميم لين شرف الدين كسرد ثانٍ. إذ تتناوب الخطوط الهندسية والدوائر والنقاط المستمدّة من التصاميم المشرقية، واللونان الأزرق والأصفر وتدرجاتهما على القص مع اللّغة. ينفرج الأزرق فيقول البحر، وتطلّ دوائر صفراء صغيرة كبقع الضوء التي تخلفها خيوط الشمس. كان ذلك منذ زمن بعيد. لكن توما وشرف الدين تأتيان لقرّائهما بنُقَط أخرى، وإن بدا ذلك مغرقاً في التفاؤل وسط زحمة السيارات والأبنية والنفايات. لعلها نقط حقيقية في النهاية، بما أن بطلة الدار الخارقة فريدة تستطيع أن تراها وتشعر بها في هذه الفوضى.

«مدوار قنبز»: أسطرلاب اللغة
لدى الدار اهتمامات ومرجعيات ثقافيّة وافرة، تجعلها تتخلّى بيسرٍ عن الطرق الآمنة في التوجّه إلى الطفل. تلمّسها لــ «مشكلة أساسيّة في تعليم اللغة العربيّة وفي العلاقة معها بدءاً من المدارس» وفق ندين توما، دفع الدار إلى البحث في الإرث العربي الثقافي واللغوي والعلمي وتوظيفه في بناء طرق وأدوات تعليميّة معاصرة تصلح للمدرسة، وقبله للبيت بوصفه مدرسة الطفل الأولى.
غلاف كتاب «نقطة ورا نقطة»

«مدوار قنبز» هو التجسيد الحرفي لهذه الفكرة. استلهم فريق الدار (ندين توما، ومي مكارم حماده، ولين شرف الدين وسيفين عريس) المدوار من آلة الإسطرلاب الفلكيّة التي صنعها العرب لاحتساب مجرى النجوم والكواكب قبل قرون. بدّلت الدار من الوظائف التقليديّة لهذه الآلة، وابتكرت لها مهمّة جديدة، إذ حوّلتها إلى آلة لغويّة لتعليم قواعد النحو والصرف. تركّزت النسخة الأولى من هذه الآلة على أسماء الآلة والزمان والمكان المشتقّة من الأفعال. المدوار هو عبارة عن دائرة بحجم لا يتجاوز السنتمترات القليلة، ويحوي إلى جانب أسماء وأوزان الآلة والزمان والمكان، الجمع والمعنى والمثل. على خلفيّة الإسطرلاب، كتب شرح بسيط للقواعد التي تطبّق على الفعل لتحويله، عبر إضافة حرف الميم (مع فتحة أو كسرة أو ضمّة).
تقتبس ندين توما من الإنسان خصاله الشاعريّة والحلميّة لسرد رواية للخلق، مستقلّة عن السرديات اليقينية

هكذا يضمّ 32 فعلاً، ومئات الكلمات الأخرى بعد تحويلها إلى أسماء زمان ومكان. الفعل: نظر. إذا ما أدرنا الدولاب المصنوع من ورق مقوّى وملوّن، سيطالعنا اسم الآلة: مِنظار، واسم المكان: مَنظر، والجمع: مَناظر، والمعنى المبسّط: تأمّله بعينيه، بالإضافة إلى المثل واستخداماته: طريف منظر المناظير في سباق الخيل. حين جرّبت هذه الآلة مع طلّاب المدارس، لاحظت توما أن درساً كهذا قد يأخذ بضع ساعات لتعلّمه، بينما يحتاج وفق المناهج الدراسيّة إلى أسابيع طويلة. وبدلاً من أن تلقى تعاوناً من المدارس، كان التجاوب خجولاً إن لم يكن رفضاً حتى من قبل الأساتذة أنفسهم. لكن بعيداً عن المدارس وتبلّد مناهجها، تحضر الدار في «معرض الكتاب الفرنكوفوني» و«معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، وفي الأمكنة العامّة في بيروت. يسهل التعرّف إلى أجنحة «دار قنبز» التي تبدو كمعارض فنية متمايزة عن أجنحة دور النشر الأخرى.

من قصّة «جديّ الديب»

هكذا حضر مدوارها بحجم كبير، خلال أسبوع «بيروت تصمّم»، وحين أطلقت مجلّتها قبل ثلاث سنوات، وكتاب «المكان» لإملي نصر الله في الأشهر الماضية، حوّلت المحتوى إلى قطع فنية تعليمية بأحجام كبيرة تنتظر تفاعل الزوّار ومشاركتهم. «درس» آخر قدّمته الدار أيضاً في النسخة الثانية من المدوار هو اللام الشمسيّة واللام القمريّة، وأحرف الأبجديّة المنقسمة بينهما، يفرّق بينها في المدوار اللونان الأخضر والبرتقالي. تواصل الدار تخفيف القواعد من أحمال كثيرة عبر تبرير القاعدة باقتراحات سرديّة: «عندما تكون اللام مع الشمس لا تُلفَظ وتختبئ وراء النور والضوء والسكوت»، و«عندما تكون اللام مع القمر تُلفظ وتُطلّ مثل الهلال والبدر والكلام». يدور المدوار فنتعرّف إلى اللامَين، ونقرأ استخداماتهما الفكاهيّة: النّجمة في اليد، التمساح في المغطس، الذّرة في الوسادة...

أبجدية السمع والبصر
يقوم كتاب «أصوات الأبجديّة» على واحدة من السمات المتفرّدة للغة الضاد، التي تكاد تكون اللغة الوحيدة، إلى جانب بعض اللهجات الأفريقيّة الأصليّة، التي تحوي أفعالاً تكتب بحرفين مكرّرين، وتُصدر، إذا ما قُرئت ولُفظت مرّات عدّة، صوتَ الفعل نفسه. توقظ ندين توما الطبقات الصوتية واللفظيّة للعربيّة التي كادت تضيع في الاستخدامات الكسولة للغة. تدعو الطفل للانغماس بكل حواسه بأصواتها وألفاظها وأشكالها البصريّة، كما في هذا الكتاب الذي هو عبارة عن معجم للأفعال الصوتية على عدد الأحرف الأبجديّة نقرأها في الكتاب: صَهْصَه، وطَنْطَن، وشَكْشَك، وقَهْقَه، وفَقْفَق.... فيما ترفق هذه الأفعال الموسيقية بتعريفات مبسّطة تحمل توقيع الدار.
حرف العين مكتوب بـ «خط طابتي» في كتاب «أصوات الأبجديّة»

كذلك، يقترح الكتاب خطاً جديداً يدعى «خط طابتي» ابتكرته لارا أسود من الخط الكوفي المغربي والأشكال المدوّرة التي يسهل تلقّفها وتمييزها من قبل الأطفال في عمر مبكر. أما على الغلاف الخلفي، فهناك قصّة قصيرة مبنيّة على هذه الأفعال واستخداماتها: «هَرْهَرْهَرْهَرْهَرْ الكعك على السجّاد... هَزْهَزْهَزْهَزْهَزْت طنجرة الشوربة على الغاز.... شَرْشَرْشَرْشَرْشَرْشَرْ الماء على الأرض» لتنتهي «بِقَرن حَرْحَرْحَرْحَرْحَرْ».

حكايات لألفاظ الحروف
سلسلة كتب «حكايات وألعاب» تواصل تظهير الغنى والدقة اللفظيين للغة العربيّة. تضمّ السلسلة خمسة كتب: «وين لطّوف؟ عم تنتف صوف»، و «جدّي الديب»، و«ظاظا زعلت من زوزو»، و«سوا سوا تفسّحنا»، و«قمّل قاسم»، كتبتها نجلا جريصاتي خوري، برفقة رسومات سارة سخن. قد لا يكون تمييز طفلاً بين الأحرف المتقاربة لفظيّاً أمراً يسيراً، مثل أحرف القاف والكاف، وأحرف الثاء والصاد والسين، والتاء والطاء، والدال والضاد، والذال والزين والظاء. في قصّص طريفة بالمحكيّة والفصحى في إطار بصري غني، تقدّم الكتب كميّة وافرة من الكلمات التي تتضمّن أحرفاً متشابهة.
حرف الكاف مكتوب بـ «خط طابتي» في كتاب «أصوات الأبجديّة»

في قصّة «جدّي الديب»، نقرأ «جدّي الديب مركّب وجبة، ما عندَك ضرس يا جدّي... ما تعوّد عالمدينة مضايق بطابق أرضي... في دقدقة ما بتهدى وفي ضجيج وفي فوضى». فوق كل كلمة من الكلمات رسومات صغيرة، تسند المعنى. وحين ينتهي السرد اللغوي، ستكمل الرسمة الكبيرة لسارة سخن السرد وحدها. إذ تتضمّن مئات الأشكال والحيوانات والأشياء التي تحوي حرفاً من هذه الحروف، تضاف إليها ألعاب وتمارين. أما الحجم الكبير للكتاب، فلم يكن خارجاً عن الرؤية التحريرية للدار، التي أرادت إنجاز كتاب تتطلّب قراءته مساحة للجلوس، في زمن الهواتف والألواح والكومبيوترات المتنقّلة.