في «مُحمّد، السيرة السياسية» الصادر أخيراً عن «دار الفارابي»، يعود الكاتب والباحث اللبناني إلى «الأصل» أو إلى المرحلة التأسيسيّة للإسلام، علّه يَجِد إجابات أو تفسيراً للحالة «القَلِقة» الولّادة للعنف الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم. يقدّم الكتاب صورة واقعية لمحمد القائد السياسي (والنبي) بعيداً عن الشطح الأسطوري الذي أدخلته كُتب السيرة وفاضت به على حساب «بشريّته كرجل فضيلة ومناقب تفوق العادي».يُقرُّ نصري الصايغ أنه أُعجِب بسيرة محمد «القائد السياسي» بعدما قرَّر الكتابة عنه. قبل ذلك، لم يكن لدى الرجُل أيُّ «انحياز» تجاه الشخصيّة التي أسَّست لـ«نواة إمبراطورية عظمى مِن لا شيء» على ما يقول الصايغ نفسه. في كتابه «مُحمّد، السيرة السياسية» الصادر أخيراً عن «دار الفارابي»، يَرجِعُ الصايغ إلى «الأصل» أو المرحلة التأسيسيّة للإسلام، علّه يَجِد بذلك إجابات أو تفسيراً للحالة «القَلِقة» الولّادة للعنف الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم. فإذا به يعيد تعريف «السياسة» لدى المسلمين انطلاقاً من سيرة مُحمّد بالذات. لا يهدف الصايغ إلى «كتابة سيرة من أجل إضافة قول على أقوال»، بل إلى إلقاء الضوء على ما يعتبره «بشريّة الرسول وقيادته من دون المساس برتبة النبوّة». يدرك الصايغ أن محاولة الفصل بين السيرة السياسية لمحمد والدعوة الدينية تبدو «مُثقلة بالإرتكاب»، لكنه مع ذلك أخذ على عاتقه محاولة إعادة قراءة سيرة الرسول السياسية «التي كانت نتاج عبقريته ومبادراته ومثابراته وتضحياته»!

ينطلق الباحث اللبناني من الوقائع والأحداث أوّلاً ليذهب بعدها إلى «الفكرة» في ما يسمّيه «سفسطائية جديدة»، منتهياً إلى خلاصة مفادها أنّ «قرارات محمد وليدة زمنه وعصره ومعركته وليست تُحتَذى لأنّ لكل عصر مفاهيمه وتقاليده وعاداته وفلسفته وحاجاته. أمّا ما له علاقة بالنبوة، فهو غير قابل للتعديل في نصّه وإنّما جائزٌ الاجتهاد فيه». يبدو الصايغ في ذروة إنتاجه الفكري هذه الأيّام. يمضي ساعات في الكتابة والتأليف في منزله ولا يخرج إلّا لممارسة الرياضة أو لِلقاء الأصدقاء. لم تنتهِ حكايته بعد مع جريدة «السّفير» المتوقّفة عن الصدور. لا يزال يحرص على الحضور إلى مكتبه هناك مرَّة في الأسبوع أو كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. على الجدار خَلْف الرجُل صُوَرٌ وقصاصات من أرشيف «السفير» الذهبي وأمامه أسئلة كثيرة عن «إسلام المستقبل بشروطه الروحيّة وظروف التاريخ الذي لا يتوقّف عن السَّيَلان».

العودة إلى «الأصل»: سيرة غير قابلة للاستنساخ
«الزّمن الإسلامي الراهن وهو زمن مأزوم ليس كإسلام بل كمسلمين»، هو ما يدفع نصري الصايغ «العلماني» للعودة إلى «إسلام محمد» بتوقيت اللحظة التاريخية الراهنة. كأنّ الكتاب «جاء في وقته» على ما يقول صديق مقرّب منه. يقول الصايغ لـ«الأخبار»: «ليس عند المسلمين جواب واحد حيال ما يحدث في المنطقة، والأجوبة الصادمة هي أجوبة همجيّة تمثّلت بالإسلام المتطرّف الداعشي والنُصرَوي والطالباني والقاعدي وأشقائهم المنتشرين في كل العالم الإسلامي منذ دخول الاتحاد السوفيتي أفغانستان وصولاً إلى انفجار موجات العنف المستمرة عقِب أحداث الربيع العربي». هذا المشهد المتواصل منذ عقود حفّز الصايغ على البحث في «الأصل» الذي يدّعي هؤلاء الانتماء إليه لـ«نرى إذا ما كان ذلك الأصل مناسباً أم لا في هذا الزمن». يلفت الصايغ إلى أن كثيراً من المفكرين الإسلاميين «المعتدلين» عندما قرأوا الإسلام كما هو موجود لدى كتّاب ومؤرّخين وأصحاب سيرة سابقين، وجدوا أن «هناك في الإسلام ما يشبه ما يقوم به أهل الإسلام الأصولي الراهن من أعمال قتل وتقتيل». لكنّ صاحب كتاب «خُذ حصّتك من القتل» لا يبدو مقتنعاً بذلك. يقول: «حتى لو كان هناك في السيرة ما يشبه ما تقوم به بعض المجموعات المتطرفة تحت لواء السّلف، فإن ذلك لم يكن بسبب الدين والوحي، إنما بسبب الضرورات السياسية التي كانت موجودة حينها». لا يرى ضيراً في تمسّك المسلمين بالأصل ولكن «للارتواء من الدين وليس من السياسة». في السياق ذاته، يجزم أن سياسة الرسول، بما فيها غزواته العسكرية، غير قابلة للاستنساخ في الزمن الحاضر. «في كل مرحلة كان الرسول يمارس سياسة مختلفة عن الأخرى، ذاك زمنه وهذا زمن آخر. لا تستطيع مثلاً أن تقول إن الرسول فعل ببني قريظة كذا وكذا، وفي غيرها من الغزوات العسكرية. دعوة محمد الدينية صالحة لكل زمان ومكان بشرط فهمها على قاعدة العصر. أما السياسة فهي بنت زمانها فقط». يضيف الصايغ في حديثه لـ«الأخبار»: «لا شيء يتكرّر في السياسة. خُذ مثالاً الماركسية اللينينية هي منهج، كيف طبّقها ستالين؟ السياسة هي عالم الخيارات التي تكون راهنة في زمانها ومكانها فقط». السياسة لا تُستنسَخ برأي الصايغ. يقول: «الديمقراطيات الغربية ليست واحدة اليوم، وحتى الدول التي كانت تحت عباءة الإسلام، لم تكن دينية بل كانت الدولة العباسية والأموية والفاطمية وغيرها»، وهي بهذا المعنى «نمط من أنماط الأنظمة الملكيّة وليست حاجة دينية» وفق قراءة قدّمها الصايغ لكتاب «الإسلام وأصول الحكم» في ملحق خاص بعنوان «محنة علي عبد الرازق».
يرى أنّ النبي سبق كثيرين في إدراك معنى العقد الاجتماعي في تكوين الجماعة ومن ثم في تكوين الدولة


ليس بعيداً عن ذلك، يشير الصايغ في الفصل الأخير من الكتاب (الخلاف على الخلافة) إلى أنّ «النص التأسيسي للسياسة بعد وفاة الرسول ليس السيرة النبوية لأنّها خلت من قواعد السلطة وانبثاقها». يتوقّف عند هذه المسألة التي «تستعصي على الفهم»، مُتسائلاً: «كيف يمكن لإمبراطورية قيد الإنشاء ولمجتمع قاد حروباً وغزوات فاتّسعت رقعة نفوذه وسلطته على معظم الجزيرة العربية أن لا يكون هناك أي نص أو كلام عن السّلطة؟».

«الخروج من الأسطورة» إلى السياسة
يقدّم كتاب «محمد، السيرة السياسية» صورة واقعية لمحمد القائد السياسي (والنبي) بعيداً عن الشطح الأسطوري الذي أدخلته كُتب السيرة وفاضت به على حساب «بشريّته كرجل فضيلة ومناقب تفوق العادي». برأي الكاتب، فإن هذه النزعة البشرية والواقعية أوصلته إلى وضع قواعد لنشوء إمبراطورية كبرى (وديناً) مِن لا شيء لا تزال حيّة إلى اليوم، فيما الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ بُنيَت على إرث دول سبقتها. لا يعوز الصايغ الدراية للقول إنّ كل ما قام به محمد، كان في الأصل بدافع نشر الدعوة الإسلامية وإنجاح مشروعه الديني. لكن الفكرة الأساسية التي يحاول الكاتب التأكيد عليها في غير مكان من الكتاب هي مساحة «السياسة» في حياة محمد وسيرته لا سيّما في المرحلة «المدينيّة». يقول الصايغ لـ «الأخبار»: «لنَرجِع إلى الأصل مرّة أخرى. الأصل هنا أن نحاول تبيان ما هو نبوي بحت وما هو سياسي بحت. النبوي البحت هو الذي نزل في مكّة تبشيراً بالله وبالعدل والمساواة ونصرة المظلومين وضرورة الإيمان بالتوحيد المطلق إلخ. هذه المرحلة المكّية التي لم يكن فيها سياسة، انتهت بفشل مهمة محمد بسبب الفتن التي شنّت ضد المسلمين الأوائل». يضيف: «في المدينة (يثرب) شيء آخر. الأحداث هناك دعت محمد لأن يكون سياسياً عاماً لا سياسيا خاصاً، أي آخذاً السياسة من كلِّ أطرافها وأوّل طرف فيها هو القوة». في تأكيده على عبقرية محمد السياسية، يعطي الصايغ مثالاً على ذلك وهو «دستور» (صحيفة) المدينة، لافتاً إلى أنّ محمد «رجلٌ سبق كثيرين في إدراك معنى العقد الاجتماعي في تكوين الجماعة ومن ثم في تكوين الدولة». ويقدم الكاتب مثالاً آخر من خلال «صلح الحديبية»، كوثيقة علمانية، باعتبارها نموذجاً على كيفيّة تحويل «الخسارة» من منظور أصحابها إلى «ربح استراتيجي» تمثّل لاحقاً في استسلام مكة. يصل الصايغ إلى خلاصة مفادها أنّ الدين شيء والسياسة شيء آخر. يقول: «لا بدّ في النهاية أن يصِل الإسلام إلى مرحلة يحاسب نفسه فيها ويقول الإسلام شيء والسياسة (الدولة) شي آخر»، مشيراً إلى «أنه يبقى فقط التشريع المتعلّق بالأحوال الشخصية الذي يمكن التعامل معه مع بعض التعديلات». لم يغادر نصري الصايغ دائرة قناعته بفصل الدين عن الدولة، بل يبدو أكثر إصراراً على ذلك حمايةً للدين والدولة معاً. يقول في آخر الكتاب: «تستطيع الدولة أن تعيش بلا دين وبإمكان الدين أن يحيا بلا دولة. الدول إلى زوال. الدين إلى بقاء. فمتى يحدث هذا الفصل لصالح الدين ولصالح الدول معاً؟».

تأريخ النص و«ضمانة القرآن»
في كتاب «كان هذا سهواً» (صدر بعد رحيله) اعتبر أُنسي الحاج أن «الكلام (عن الإسلام) من خارج يظلُّ طَعناً ولو كان مُحِقّاً». لكن نصري الصايغ، في كتابه عن محمّد، لا يبدو معنيّاً بالجانب الديني من السيرة النبوية من دون أن يسقط عنه بالضرورة صفة النبوة. «لا أستطيع أن أتعامل مع شخصية محمد إلا كما يقدّم نفسه. فطالما يعتبر عن حق وتضحية ونضال أنه نبيّ، لا يمكنني إلا أن أتعامل معه على قاعدة النبوة بمعزل عن إيماني بفكرة النبوة». لا يقيس الصايغ مصداقيته كمؤرّخ إلا بمقدار إعماله العقل في ما استند إليه من مصادر ومراجع تاريخية لمؤرخين جُدد في الغالب، وتأتي في مقدّمتها أعمال لهشام جعيط وحسين مروة وعلي دشتي ومحمد عابد الجابري ويوسف درة حداد والعشرات غيرهم، فضلاً عن أعمال لمستشرقين من أمثال مونتغمري وات. ويشير الصايغ، في السياق، إلى أهمية كتاب «نشأة الدولة الإسلامية على عهد رسول الله» للكاتب السوداني عون الشريف قاسم حول الوثائق والمعاهدات مع القبائل، والذي «لم يستند إليه أحدٌ من قبل». في كتابه «محمد، السيرة السياسية»، يذهب نصري الصايغ إلى «قراءة المسألة في تاريخيتها». لذا يعتمد على القرآن كمرجع أساسي ورئيس بوصفه «الضمانة». يقول: «القرآن هو الكتاب الوحيد الذي كان معاصِراً للرسول، وثبُت أن القرآن المتداول والشائع لدى المسلمين هو نفسه قرآن عثمان». لا يبدو الصايغ هنا مَعنيّاً بزمن نزول الآيات، بل يهمّه أن يأخذ المعطى التاريخي. «لستُ ذاهباً إلى الثيولوجيا أو إلى اللاهوت أو التنقيب في ما له علاقة بالنبوة»!



فلسطين ممرٌّ إلزامي لمصالحة إسلامية
لم يعُد نصري الصايغ (مواليد عام 1944) مؤمناً بالعقائد بعد تجربة حزبية طويلة ومريرة. «أنـا مؤمن بالوقائع وبضرورة التجدُّد الدائم. نصري الصايغ الحزبي مات». برأيه، فإنه لَو كان لا يزال مؤمناً بالعقائد لما أمكنه أن يضع كتاباً كـ «محمد، السيرة السياسية». وصل الرّجُل، وعلى مراحل مختلفة، إلى مواقع حزبية متعدّدة كان المشترك والثابت فيها هو فلسطين. «أكون حيث تكون فلسطين، عقيدتي فلسطين، وبالسياسة لا يمكن أن أكون خارج فلسطين». يرى في حديثه لـ«الأخبار» أنّ «فلسطين هي القضية الأولى التي يمكن القول إنَّ ربْحَها يُشفي العرب وخسارتها تدمّرهم». يقرُّ بوجود تباعد كبير في الشارع الإسلامي في مقاربة القضية الفلسطينية. يقول: «ثبُتَ أنّ فلسطين لم تَعُد حاضرة في الشّارع العربي السُنّي في السّنوات الأخيرة. ثبت أيضاً أن فلسطين التي ينطلق اسمها من خلال «محور المقاومة وإيران» لا تلقى قبولاً بل رفضاً من قبل الشارع السُنّي عموماً». يؤكّد أن ليس هناك من طريقة واجب اتّباعها لـ «إعادة فلسطين إلى الشارع السنّي سوى بمصالحة وتحالف عَلَني ما بين المقاومة ذات الطابع الشيعي والإخوان المسلمين تحديداً كونهم حاضرين على مستوى كل الدول العربية والإسلامية وعلاقتهم بفلسطين سليمة والدليل على ذلك حماس». لا بديل عن «فرصة العودة إلى فلسطين» برأي الصايغ، وهي فرصة يمكن أن تضمَّ جماعات وكيانات سياسية ودولاً، لكن على أساس واضح هو مشروع المقاومة. يرى الصايغ أنّ هذه المصالحة، في حال حصلت، «من شأنها أن تطوي الصفحة الماضية بكل ما فيها من جراحات وآلام ودماء، فضلاً عن الحاجة السياسية لمثل هذه المصالحة في إعادة فلسطين إلى العرب واستعادة اليقظة القومية والإسلامية والفلسطينية على مستوى الشارع». لم يفقد نصري الصايغ الأمل بالشّعوب العربية رغم إخفاقات السنوات الماضية وأخطائها وعذاباتها. «الشعوب خرجت وقُتِلت لكنّ ليس ذلك نهاية الزّمان».