بين «شرعة حقوق الإنسان والمواطن» (La Déclaration des Droits de l›Homme et du Citoyen de 1789)، تلك التي خَرَجَتْ من رحم ثورة 1789 الفرنسيَّة ومبادئها، الثورة/ الأم، التي أرْسَتْ مفاهيم الحريَّة والمساواة والأخوَّة والعدالة والمواطنة وما إليها من مبادئ وأسس، أدرَكَتْ أنوارُها كلَّ بقاع الأرض؛ بين تلك الشرعة وزماننا، مسافة نيِّف وقرنين. مسافة، وللأسف، ظلّلها عصر الكولونياليّة الجائرة التي انْتَفَخَتْ خلاله بعض الأمم والشعوب على حساب البشريّة جمعاء، فكانت حروب ونكبات ومظالم وعصبيّات. وكانت احتلالات وانتدابات، وأوبئة ومجاعات، لتنحسر كرامة الإنسان وتتبخّر حقوق الشعوب في غير مكان.وبين «الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان» (La Déclaration Universelle des Droits de l’Homme) الذي أبصر النور في 10/12/1948؛ بين هذا الإعلان، وبين قرار «حقّ العودة لللاجئين الفلسطينيّين» رقم /194/، الصادر في 11/12/1948 عن «الجمعيَّة العامة للأمم المتحدة»؛ بين «الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان» وهذا القرار الأمميّ الذي لم يطبّق يوماً، مسافة ليلة وضحاها. ففي الحادي عشر من شهر كانون الأول من عام ١٩٤٨، أي بعد يوم واحد على إعلان «الشرعة»، صدر عن «الجمعيّة العامة للأمم المتحدة»، القرار التاريخي الذي طالب، إثر «نكبة فلسطين» بحقّ عودة النازحين إلى بلادهم وتعويضهم. إلا أن هذا القرار، وبعد سبعين سنة على صدوره، لم ينفّذ. ليَغْدوَ أول مسمار في نعش تلك «الشرعة». وكانت قد نُسِفَت كلّ الجسور، ظلماً وعدواناً، بين فلسطين التاريخيّة ومحيطها حيث حطّ النازحون رحالهم.
أكثر من ذلك، فإنّ أياً من القرارات الدوليّة بشأن فلسطين، ولا سيما القرار /242/ الصادر عام 1967، وما تبعه من قرارات بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وكلّ مشاريع التسويات، من «كامب دايڤد» إلى اليوم، لم يحقّق مبتغاه... كما المئات من القرارات التي لا مصلحة لدول الـ «ڤيتو» في تحقيقها... ليبلغ بنا المطاف اليوم، وفي غفلة من التاريخ وحماة التاريخ، إعلان «القدس عاصمة أبديّة لإسرائيل» بتوقيع أميركيّ فاجر، وإذعان خليجيّ سافر.
عندما يَسْكُت العالم، أو بعضه، عن سقوط الحقّ في مكان، يسقط الحقّ في كلّ مكان، وتسقط معه كلّ الشرائع والتشريعات، فتَفْرُغ الحضارة الإنسانيّة من ألَقِها، ومن أجمل ما فيها. «حقّنا».!؟ ومن نحن!؟ وهل الحقّ حقّ للجميع أم أنّه حِكْر على أصحاب القوّة والثروة والنفوذ!؟ أكان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات والدول!؟ هي البربريّة التي عاشتها البشريّة، والتي ما كانت «الشرعة» إلا لوضع حدّ لها... هي تلك البربريّة، ما زالت قائمة في زماننا!؟
إن صورة العالم اليوم مغبَّشة أكثر من ذي قبل، رغم تقدّم العلوم وتكنولوجيا التواصل وكلّ المواثيق. فالقويّ يأكل حقّ الضعيف، والمتجبّر يسوق العالم إلى الدمار.
صورة العالم مغبّشة في معظم بقاع الأرض: من المكسيك إلى أميركا الوسطى، ومن ﭬنزويلا إلى الأرجنتين، حول سهول البامبا وعلى امتداد جبال الأنديز؛ ومن ضفاف المتوسط إلى عمق القارة السمراء؛ ومن بلاد النيل إلى بلاد الشام وما بين النهرين وصولاً إلى اليمن «السعيد»، جرح البشريَّة النازف ظلماً، حيث الشفاه المرتجفة والأعين الدامعة لطفولة معذبة. تصفع العالم وحضارته الزائفة، وتُفرغ ثوراته من مضامينها، وتُسقط كل مواثيقه والقرارات. وما بعد اليمن. طبعاً، دون أن ننسى البلقان ودول البلقان.
عنوان واحد ينسحب على الجميع:
أوطان مهتوكة وشعوب مسحوقة وسياسات دوليَّة - اقتصاديَّة وماليّة، بل تسويات وصفقات ومؤامرات، لا تعكّر حياة الناس فحسب، بل تنسف الأعراف والأسس والمرتكزات التي قامت عليها مجتمعاتنا!؟
ها هو العالم اليوم، عالم ازدواجيّة المعايير، منقسم بين شمال وجنوب، وبين دول صناعيّة وأخرى نامية، بل بين دول غنيّة وأخرى فقيرة، والحروب مستعرة لتَناتُش النفوذ، والاسْتِئْثار بخيرات الأرض على حساب أبناء الأرض!؟
أيحقُّ لنا، وبعد سبعين عاماً على صدور «الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان»، أن نأمل في تحقيق بنوده، وما تَتَضَمَّنه من مبادئ وقيم، قد تجعل منها، ليس مجرّد شرعة وحسب، بل شَرِيعَة لإنسانيّة تترنّح فيها كلّ المفاهيم!؟
ألم يكن شارل مالك رؤيوياً في تقريره الذي بعثه عام 1949 إلى الحكام العرب، محذّراً من السياسة الأميركيّة التي لن تكون إلا لصالح إسرائيل!؟ ولكن أين العرب!؟
باختصار، هو سؤال الحقّ الإنسانيّ المغلوب، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ما يمكن أن نُسَمِّيَه «حقّنا»، نحن الآدميين!؟
أ «أمم متّحدة» هي، أم «ولايات متّحدة» أم تراها «روما» الزمن الحالي!؟
كأني ﺑ «الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان» حبر على ورق في عالم متعولِم حتى الفجور باتجاه أُحادي!؟
ترى، أتكون «منظّمة الأمم المتحدة» منبراً لإحقاق الحق أم شريعة غاب، في زماننا، تُسْحَق فيها حقوق الضعفاء من أبناء الأرض بين مطرقة الأقوياء وسنْدانهم، تماماً كما هي شريعة «الحيوانات المرضى بالطاعون» عند لا فونتين!؟

* كاتب وباحث/ أستاذ في الجامعة اللبنانيَّة