إذا كنت تعرف الأستاذ بشارة مرهج فإنك ستجده في كتابه («كهوف السلطة: تجربتي في وزارة الداخلية» ـ دار سائر المشرق) عن تجربته في وزارة الداخلية. وإذا كنت لا تعرفه بل تسمع عنه فقط، فستتعرّف إليه من خلال ذلك الكتاب. وإذا أردت أن تعرف ما يجري في جمهورية الطائف وكيف تصرّف وما زال يتصرّف أربابها، فلك أن تقرأ كتابه. ما يميّز هذا الكتاب هو الصدق في رواية الأحداث التي تعاطى معها الوزير السابق الأستاذ بشارة مرهج والتواضع في عرض الدور الذي قام به. فلما نقرأ «مذكّرات» أو «خاطرات» لمسؤول سياسي في لبنان أو غير لبنان، يتشكّل لديك الانطباع أن العالم يدور حول الراوي. لكن «تجربة» الأستاذ بشارة مرهج مخالفة لذلك الانطباع، فهو يحرص على عدم إيقاع القارئ في ذلك الانطباع الذي يعكس نرجسية الراوي، بل يركّز على ما جرى فعلاً مع تعبير الراوي عن موقفه آنذاك ورأيه في ذلك الموقف بعد حين. فتجد أمامك رجلاً منسجماً مع نفسه ومبادئه، وأهم من كل ذلك مع أخلاقه وهذه من نوادر جمهورية الطائف. فتلك الجمهورية لم تتحمّل في آخر المطاف رجلاً مثل الأستاذ بشارة مرهج، فعمل رموز تلك الجمهورية على استبدال نقيضه به. فكانت حكاية مرسوم منتصف الليل الذي يرويه في الفصل الأخير من الكتاب.لا يمكنني أن أميّز بين الكتاب وموضوعه، والذي كنت أتمنّى أن يكتبه قبل اليوم، والرجل الذي عرفته منذ أيام الجامعة الأميركية. ما وجدته في الكتاب هو ما عرفته عن الرجل. فأسلوب الكتابة يعكس شخصية الكاتب في الهدوء والوضوح في آن واحد. ليس هناك من جمل معقّدة، بل بسيطة ورقيقة وحتى شعرية خاصة عندما يتكلّم عن ضهور الشوير ويصف المنزل والأحراش التي نشأ تحت ظلال أشجارها. فهو الرجل الهادئ والصادق والمتمسّك بالثوابت التي عرضها بشكل سريع في الفصل الأول من الكتاب. كنت أتمنّى أن يستفيض أكثر في الكلام عن نفسه ليفهم القارئ أكثر من هو الرجل وكيف تصرّف في الملفّات المعقّدة بالحفاظ على المواقف المبدئية والقانون والدستور، مع مرونة في التعاطي وفقاً لتقديره الصائب للظروف. في المقابل، زملاؤه من المسؤولين السياسيين المرموقين لم يكن لا القانون ولا الدستور معياراً وقاعدة لهم في اتخاذ المواقف والقرارات، بل فقط المصلحة الآنية الضيّقة التي كان ويكون ضررها أكثر من نفعها.
يتكلّم في الكتاب عن ضهور الشوير ويصف المنزل والأحراش التي نشأ تحت ظلال أشجارها

ويقول الصديق ورفيق الدرب الطويل الأستاذ معن بشور إنّك تدرك عندما تقرأ الكتاب «كم هو مكلف أن تكون نزيهاً في أجواء تفوح منها روائح الفساد، بل كم هو مكلف أن تبقى مستقلاً في مواجهة شتّى أنواع الضغوط والإغراءات التي تقودك إلى الارتهان والالتحاق بهذا النظام أو ذاك، بهذه العصبية الطائفية أو المذهبية أو تلك، بهذه السطوة المالية أو المصالح الضخمة». فمن أخلاق الوزير مرهج تجنّبه الإساءة لخصومه، حتى أنه لا يستعمل ذلك المصطلح، بل يكتفي بالقول مع من يختلف معهم في الرأي. فلا يشخصن الخلافات بل يعرض المواقف كما هي ولا يغيّر فيها لتلميع صورة أو للإساءة أحد. لكن القارئ يستطيع من خلال العرض الموضوعي أن يفهم جوهر الخلاف. فما قاله الأستاذ بشور بحق الأستاذ بشارة مرهج يعكس يقين الموقف.
التمييز بين الموقف والشخص ليس عملاً بسيطاً، خاصة أن الأسلوب السياسي الذي نشهده في لبنان والوطن العربي يعتمد الشخصنة بدلاً من مقاربة الموقف الذي قد يتّخذه المسؤول. فالتسرّع إلى التخوين أو التكفير هو من صلب ثقافة الإقصاء التي عمّت وما زالت الفضاء السياسي اللبناني والعربي على حد سواء. وهذه ثقافة حاربها الوزير مرهج وإخوانه طيلة حياتهم النضالية. فكانوا من أصحاب بناء الجسور وليسوا من أصحاب المتاريس، وهذا ما أغاظ وما زال يغيظ كثيرين من الرؤوس الحامية، وهم كثر! تجربة الوزير مرهج تدلّ على كيفية تعامله مع من كان يختلف معه في الرأي والموقف والسلوك خلال الحرب الأهلية. فلا أحقاد بل مسؤولية رفيعة المستوى في التعاطي. هكذا تعامل مع «القوّات اللبنانية»، ففاجأهم بموضوعيته ونزاهته في شتّى المراجعات، وهذا ليس غريباً لمن يعرفه. وهكذا تعامل أيضاً مع من كان محسوباً على خطّه السياسي عندما كانت المراجعة خارجة عن القانون فكان رفضه للضغوط لمخالفة القانون وحتى الدستور.
الكتاب صدر عن «دار سائر المشرق» بـ 483 صفحة في 15 فصلاً، يراوح طول كل فصل بين 8 صفحات (الفصل الخامس) وهو أقصر الفصول، و100 صفحة (الفصل الثالث عشر) الذي يروي فيه الملفّات والصراعات التي خاضها. وهناك ثلاثة فصول طويلة نسبياً (الفصل الثامن، 56 صفحة، والفصل التاسع، 42 صفحة). يروي الكاتب في الفصل الثامن حادثة جسر المطار عام 1993 والخلاف في الرأي مع الرئيس الهراوي بينما في الفصل التاسع يروي علاقته مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري والتي وصفها بـ «المد والجذر». فالعلاقة مع الرئيس الحريري وحادثة المطار إضافة إلى مرسوم التجنيس، الذي تكلّم عنه في كتاب منفصل سبق صدور الكتاب الحالي وإن لخّص بعض جوانبه في الفصل الرابع عشر، محطّات بارزة في تجربة الوزير السابق. أما الفصل الخامس عشر بعنوان «مرسوم منتصف الليل»، فهو الفصل الذي يلخّص برأينا مأزق الطبقة السياسية الحاكمة منذ الطائف والذهنية السائدة التي تعتبر الصفقات الخاصة والتسويات السياسية أساساً للعمل، بدلاً من القيام بإصلاحات جدّية لنقل البلاد الخارجة من حرب أهلية مدمّرة إلى حالة استقرار، وذلك على أسس واضحة وشفّافة وعلى أساس المساءلة والمحاسبة الغائبة بشكل مطلق بعد ثلاثين سنة عن إبرام اتفاقية الطائف وتأسيس ما هو معروف بالجمهورية الثانية التي قد تشارف على نهايتها مع استمرار تفاقم أزمة تشكيل الوزارة. ففي رأينا، ما بُني على باطل لا يمكنه إلّا أن يكون باطلاً وإن طالت الفترة ليعي المواطن اللبناني يقين أزمته. ومرسوم نصف الليل هو المرسوم الذي أصرّ على إصداره المرحوم الرئيس الهراوي في منتصف الليل عندما عبر الحدود السورية اللبنانية عائداً من دمشق بعد أخذ موافقة الرئيس الأسد على تغيير في الحكومة. فكان إصدار المرسوم الذي يوكل وزارة الداخلية للوزير ميشال المر بعد إعفاء الوزير مرهج. لم ينتظر الرئيس الهراوي الوصول إلى بيروت لإصدار المرسوم بسبب استعجاله استبدال الوزير المر بالوزير مرهج. والجدير بالذكر أن الرئيس الهراوي لم يرتح منذ البداية إلى وجود الوزير مرهج في وزارة الداخلية إلى أن سنحت له الفرصة لإجراء التعديل الوزاري.
علاقة الكاتب مع الرئيس الحريري كانت مثيرة وغير غريبة لمن كان يعرف الرجلين. وهي إن دلّت على شيء، فهي تؤكّد استقلالية الكاتب والتمسّك بالدستور والقانون بدلاً من الاسترضاء الرخيص الذي يضرّ بالمصلحة الوطنية والموقف القومي. هناك من روّج أن الوزير السابق كان «وديعة» لسوريا، حتى إن الرئيس الحريري كان يظّن أن الوزير مرهج لن يستطيع أن يخرج عن «الطاعة» السورية. وهنا تكون أهمية الحادثة مع نائب الرئيس عبد الحليم خدّام والرئيس الحريري الذي ذهب إلى دمشق لـ «يشتكي» على الوزير مرهج. ففي قاعة الانتظار لنائب الرئيس خدّام، كان الأستاذ مرهج برفقة رفيقه في الدرب الطويل الأستاذ معن بشّور. فلمّا خرج الرئيس الحريري من اجتماعه مع نائب الرئيس خدّام قال لمرهج وبشّور سترون ماذا سيفعل بكما نائب الرئيس خدّام، وإذ يخرج الأخير من مكتبه ويسأل عمّا يحصل. يستهلّ الكلام الأستاذ بشوّر ويقول بلّغ «الأخ»، ويقصد هنا الرئيس الحريري، عن مستوى علاقتنا بك وبكم إجمالاً. تعمّد الأستاذ بشّور إفهام الرئيس الحريري أنه يتكلّم مع من له رصيد كبير جداً في العمل الوطني والقومي. فيقول بشّور للنائب الرئيس خدّام: ألم نعترض بشدّة على قرارتكم في كذا وكذا، وهنا عدّد القضايا المصيرية كالحرب على المخيّمات الفلسطينية في لبنان، وعلى استباحة بيروت للميليشيات، والحرب على طرابلس، والتحالف بحفر الباطن على سبيل المثال. فأجاب النائب الرئيس خدّام على كل الأسئلة بنعم. هنا فهم الرئيس الحريري أن مستوى العلاقة بين الأستاذ مرهج وبشّور مع نائب الرئيس خدّام وبالدولة السورية مختلف عما كان يتصوّره، فخرج من قاعة الانتظار من دون أن يتفوّه بكلمة وحتى دون أن يستودع الحاضرين.
هذه الحادثة التي يرويها الكاتب في غاية الأهمية لأن هناك من كان يتهّم الثنائي بشّور ومرهج بالولاء لسوريا أو لرئيس منظّمة تحرير فلسطين الشهيد ياسر عرفات أو لحزب البعث الحاكم في العراق آنذاك، واليوم إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، وهيهات هيهات لتلك التهم والمفارقات! وأذكر أن خلال الحرب الأهلية في لبنان، كان العديد من قيادات الحركة الوطنية في حيرة حول «تصنيف» بشّور ومرهج، وهما البعثيان السابقان اللذان استقالا مع أخوة لهما من الحزب بسبب خلاف في السياسة والسلوك، بأي «خانة» كانا! ذهنية تلك القيادات، وفيما بعد رموز الطائف، لا تستطيع أن تتصوّر استقلالية ما عند أي طرف سياسي فاعل، وما زالت تلك القيادات في حالة إنكار لتلك الاستقلالية حتى الساعة. تلك الاستقلالية هي ميزة الوزير مرهج والجوّ السياسي الذي ينتمي إليه. فالعروبة التي يحملها مع إخوانه لم تكن خاضعة في أي يوم من الأيام إلى مساومات الأنظمة التي حملت ذلك اللواء، سواء في المشرق العربي أو في شمال إفريقيا أو المغرب.
العلاقة مع الحريري وحادثة المطار عام 1993 ومرسوم التجنيس محطّات بارزة في تجربته


بالمناسبة، يهمّني أن أذكّر أن الأستاذ مرهج والأستاذ بشور من المؤسّسين للمؤتمر القومي العربي الذي منذ تأسيسه عام 1990 يتعرّض لكافة أنواع الضغوط والحصار من الدول العربية سواء كانت «تقدّمية» أو «رجعية»، بسبب حرص القيّمين على المؤتمر القومي العربي على الحفاظ على استقلاليته. فالهجوم «الموسمي» على المؤتمر القومي العربي لأسابيع قبل وبعد انعقاده كل سنة، دليل على امتعاض النظام الرسمي العربي من تلك الاستقلالية. وحتى القوى السياسية النافذة على الساحة العربية تحاول جذب المؤتمر إلى خانتها، غير أنّها تصطدم بحائط الاستقلالية الذي رسخه كل من الأستاذين مرهج وبشور وإخوانهما من المؤسسّين للمؤتمر.
أهمية كتاب «التجربة» لا تكمن فقط بسرد وقائع هامة جداً في تاريخ لبنان المعاصر كمسألة الموقف من المقاومة في لبنان الذي بلغ ذروة التجاذب حولها في حادثة جسر المطار كما رواها الكاتب. أهمية الكتاب هي بالتأكيد أن في لبنان من يقول لا لقوى التسلّط مهما كانت اتجاهاتها، ويقول لا لمن يخالف الوطنية والحق، ويقول لا لمن يخالف القانون والدستور، رغم ضعف الإمكانات المادية للحركة التحرّرية العربية بل بقوّة الموقف المبدئي والأخلاقي والمعنوي والثابت والمستقل. كتاب الوزير مرهج ضرورة في مكتبة كل لبناني وعربي معني بالشأن العام. فهو أيضاً دليل على أن في لبنان من هو نزيه، وفاعل، ومستقل، وينظر إلى الأمور من منطلق وطني وليس من منظور طائفي أو مذهبي أو حزبي أو مصلحي. لبنان بحاجة إلى أمثال الوزير مرهج، لكن للأسف فإن الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان هي نقيضه التام.

* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي