شهدت بيروت هذا الصيف حضوراً لافتاً لمعارض فوتوغرافيّة جعلت من شهر أيلول (سبتمبر)، شهر التصوير بامتياز. احتفى «بيروت آرت فير» بأكثر من قرن من التصوير في لبنان، إذ أفرج عن مجموعات خاصّة تشكّل ألبوماً معاصراً وحديثاً للبلاد. «دار النمر» تستضيف معرضاً للمصوّر التشكيي جوزف كوديلكا ومجموعتيه «الجدار/ بيروت». أكرم زعتري يقدّم معرضاً/ بحثاً مفاهيمياّ حول طبيعة الصورة وماديّتها في «النافذة الثالثة» في «غاليري صفير ـ زملر». مساء الخميس المقبل، سيُطلق كتاباً موسوعياً بعنون «حول الفوتوغرافيا في لبنان» يضمّ حوالي 380 صورة ومقالات ونصوص متخصّصة تغطي سنوات طويلة من التصوير المحلّي ومراحل تطوّره. وبعدما دشّنت «استديو A+» العام الماضي، بات لغاليري «آرت لاب» فضاء ثابتاً للتصوير الفوتوغرافي واستقبال معارضاً لشباب ومخضرمين تكشف عن استخدامات مختلفة ومتنوّعة للكاميرا.
من المعرض (طباعة فضية جيلاتينية وتلوين مائي على زجاج ــ 15×10 سنتم)

آخر هذه المعارض كان «Concrete Chlorophilia: Beirut» لديمتري حدّاد وأليساندرو ريزي، الذي انتهى عرضه أخيراً في غاليري «آرت لاب» (الجميّزة ــ بيروت). بيروت المدينة الفوضويّة عمرانيّاً، تخضع هنا لمقاربة مفاهيميّة يتقاسمها الفنانان اللبناني والإيطالي. ديمتري حدّاد هو مصوّر لبناني، أما أليساندرو ريزي فهو فنان مدني ومؤرّخ فنّي عاش في بيروت لفترة، وبهذا يتشاركان رؤيتهما إلى المدينة كلّ من زاويته وأدواته. يضع الفنانان مشاهدهما ضمن إطارات خشبيّة صغيرة لا تتجاوز السنتيمترات في محاكاة لأحجام البطاقات البريديّة وعلاقتها بالمدن. الصور بالأبيض والأسود تظهر لقطات عامّة عمرانيّة وطبيعيّة. عمارات شاهقة، وأشجار. مساحات اسمنتية تقابلها أخرى خضراء. أحدهما يجتاح الآخر أو يتصدّى له. أحدهما يلتقي مع الآخر. تقوم هذه الصور على فكرة دفعت الفنانين إلى البحث عن حدود المدينة المتوسّعة أبداً، هكذا وصلا إلى أطرافها من الشمال والجنوب، الضبية والدامور ومناطق أخرى.

من المعرض (طباعة فضية جيلاتينية وتلوين مائي على زجاج ــ 15×10 سنتم)

مع هذا، لا يطمح الثنائي إلى رسم حدود مدينة تفتقر إلى التخطيط والتنظيم، ولا الالتفات إلى البحر الذي يسوّر بيروت من ناحيتها الغربية لأن هذا «يتطلّب بحثاً مستقلاً» كما يقول ديمتري، مشيراً إلى التدخلات البشرية التي كمّت حضور البحر وردمت شواطئه. بموازاة جولاتهما على الأرض، دعما مشروعهما ببحث نظريّ استندا فيه إلى كتابات البريطاني الماركسي هنري مريفيلد وأفكاره المستلهمة من تعريفات سبينوزا للمادّة. يرى مريفيلد أنه تتعذّر رؤية المادّة تجزئتها، إذ يمكن القبض عليها في سماتها: كالأبنية الجديدة، والطرقات السريعة التي تربط الوسط بالأطراف. استعان حدّاد وريزي أيضاً بكتاب «الثورة الحضريّة» لعالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر، الذي يرى أن وسط المدينة يعاني من تشقّقات وتصدعات. هكذا، راح الثنائي يجولان في الشوراع ويبحثان عن هذه التصدعات في بيروت. عثرا على بؤر نباتيّة متروكة على حالها، تكسر بشكل من الأشكال السيل الاسمنتي الواحد. ما حمى وصان برّيّة هذه المساحات والبقع الضئيلة وسط المدينة، هي وجود إشكالات عليها بسبب الورثة أو الأوقاف التي جعلتها تنجو من العمران. في هذه البقع التقط ديمتري أيضاً صوره لتلاقي العمران مع أخضر الأشجر والنباتات، والتي تتشابه مع حدود المدينة.

من المعرض (طباعة فضية جيلاتينية وتلوين مائي على زجاج ــ 15×10 سنتم)

أما تقنيّة العمل، والرحلة التي أوصلت إلى النتيجة البصريّة التي نراها في المعرض، فقد خضعت أيضاً إلى الإزدواجيّة أو الثنائيّة أيضاً. ثنائية النبات/ الاسمنت تقابلها ثنائيّة الفوتوغرافيا والتلوين المائي. يشرح ديمتري أن الفوتوغرافيا هي الرسم بالضوء أي الرسم الطبيعي، بينما يمكن اعتبار التلوين المائي تدخّلاً أكثر بشريّة. في العمل قام ديمتري بالتقاط صور بالأبيض والأسود. وضعا لوحاً زجاجياً شفافاً عليها وقام ريزي بضربات مائية إنطباعية بألوان مختلفة، للفصل بين عنصرَي اللقطة. بعدها قاما بتصوير وطباعة هذه اللقطة طباعة جيلاتينية تجمع اللوح الزجاجي مع الصورة، فيما استعانا باللوح الزجاجي الملوّن مجدّداً لوضعه ضمن الإطار النهائي. لاقت المساحات في بيروت، اهتماماً لافتاً من قبل المصوّرين والفنانين المعاصرين والرسامين وفق مقاربات وطروحات مختلفة تستكشف أوجه المدينة وتجليات مشهدها، لكن هذه المرّة تترافق هذه الاستكشافات مع طروحات تقنية تتقاطع مع الشق النظري المفاهيمي للعمل.