لندن | لا يختلف أحد على أن أشرف مروان (1944 – 2007) كان عميلاً للموساد الإسرائيلي. مع ذلك، فإن زوج منى ابنة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وأحد أهم مستشاري أنور السادات ومبعوثيه، والبليونير وتاجر السلاح وسمسار العقارات المصري، الذي هوى إلى حتفه من شقته الباذخة في الطبقة الخامسة من برج سكني في لندن، بقي مع ذلك مثار جدل في مصر والعالم العربي بسبب التبني المصري الرسمي له بوصفه بطلاً قوميّاً، رغم كل المعطيات المتقاطعة عن عمالته العميقة والمديدة للموساد. سيرة مروان (كان يحمل عند مشغليه الاسم الحركي «الملاك») وفق السرديّة العبرية التي كتبها الأكاديمي الإسرائيلي يوري ــــ بار جوزيف وصدرت مطبوعة قبل عقد بعنوان «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل» (صدرت نسختها العربية أخيراً عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»)، ستكون موضوع فيلم «الملاك» (118 دقيقة). الأخير أنتجه تحالف شركات إسرائيليّة للإنتاج الفني، وصوِّر في لندن أخيراً بتمويل من «نتفليكس» الأميركية (12 مليون دولار) التي تحتفظ بحقوق بث العمل بالكامل. ونقل أحد المواقع المتخصصة في الأفلام عن طاقم العمل أن الموساد يدفع باتجاه إقناع نتفليكس بعرض الشريط في قاعات السينما وعدم قصره على منصة البث السيبيري للشركة لضمان وصوله إلى أوسع جمهور ممكن.
بذلت النخبة المصريّة الحاكمة التي يغلب عليها العسكر المتبرجز منذ 70 عاماً جهوداً استثنائيّة لتصوير مروان بطلاً قوميّاً لمصر، فدفن في جنازة عسكريّة رسميّة ملفوفاً بالعلم المصري، ووصفه الرئيس حسني مبارك وقتها بأنه بطل. هذا الإيحاء بأن الرجل كان جاسوساً مزدوجاً استخدمته مصر لإمرار معلومات مغلوطة للجانب الإسرائيلي ليس إلا غروراً طبقيّاً زائفاً من الطغمة المصريّة الحاكمة التي لا يضيرها أن تكذب وتعاند الحقائق كي لا تظهر بموقع الاختراق، ولا سيّما أن تاريخ عمالة مروان يمتد على ثلاثة عهود رئاسيّة، بدايةً من عمه ناصر وانتهاءً بمبارك، ومروراً بالفترة الذهبيّة في عصر السادات. وهو بذلك كان كدليل معتق على فشل إداري واستخباري فظيع استفحل بجسد الدولة المصريّة في ظل شبكات مصالح ونفوذ متقاطعة ابتليت بها البلاد في عصرها ما بعد الملكي.
تولى إخراجه الإسرائيلي أرييل فورمن ويجسّد الممثل التونسي ــ الهولندي مروان كنزاري شخصيّة مروان


هذا الإصرار الرسمي المصري على اختلاق سرديّة زائفة عن مروان سيذهب به في سجلات التاريخ كواحد من أهم جواسيس العدو الإسرائيلي الذين كُشفت عمالتهم للعموم، ودائماً وفق السردية العبريّة حصراً، إذ إن المصادر العبريّة يعنيها بالطبع أن تتفاخر بأن صهر الزعيم القومي العربي الأكبر أنقذ إسرائيل من هزيمة محتملة بإبلاغه الموساد عن ساعة الصفر للهجوم السوري ــــ المصري على جبهتَي الجولان وسيناء عام 1973. وهي تروي عنه بطولات أسطوريّة عديدة أخرى في خدمة الكيان العبري خلال فترة خدمة تجاوزت ربع قرن، حتى قيل إن رئيسة الوزراء الإسرائيليّة السابقة غولدا مائير كانت تتدخل شخصياً مع وزارة المال الإسرائيليّة للإفراج عن الدفعات الماليّة المبالغ بها التي يطالب بها مقابل خدماته. لكن رواية يوري – بار جوزيف في «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل» وغيرها من الكتب المتداولة، تميل إلى المبالغات أكثر من كشفها للحقائق. من المعروف الآن وبعد جدل علني في الأوساط الإسرائيليّة ــــ تم إسكاته لاحقاً ــــ أن الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة تتهم مروان بأنه زودها بمعلومات مغلوطة بساعات عدة عن موعد الهجوم، ما أعطى القوات السوريّة والمصريّة وقتاً ثميناً تسبب في تلقي الجانب الإسرائيلي خسائر كادت أن تطيح الجولان كله على الجبهة الشماليّة مع سوريا، بالتوازي مع اختراق خط بارليف على الجبهة المصريّة، غامزة بذلك من قناة جهاز الموساد الذي كان يدير «الملاك». الموساد، في المقابل، كان يرى في مروان إحدى أهم أدواته لتأكيد المعلومات القادمة من القاهرة عبر المصادر الأخرى (المتعددة) وكذلك التشبيك مع المخابرات السعوديّة تحديداً لتنفيذ مخططات الموساد في إفساد نخب العالم العربي وإفشال أي جهود عسكريّة أو تصنيعيّة قد توظف يوماً ضد إسرائيل. في المقابل، وصفته مصادر صحافيّة كسمسار نخبوي فاسد يحقق أرباحاً هائلة من خلال ربط الخطوط بين تجار السلاح والسياسيين ومختلف أجهزة المخابرات الغربيّة والعربيّة. لم تحسم بالطبع أي من هذه الروايات، وعلى الأرجح أنها جميعاً صور من زوايا مختلفة لسيرة الرّجل ذاته. لكن المؤكد أن الموساد يهمه تضخيم بطولات مروان وخدماته المزعومة لإسرائيل ربما كجزء من الحرب النفسيّة، ولكن أيضاً للتغطية على جهود جواسيس وعملاء عرب كانوا ــــ ولا يزال بعضهم ــــ في أعلى مستويات الحكم في البلاد العربيّة، وأسدوا ــــ ويسدون ــــ خدمات لا تقدر بثمن لمصلحة المشروع الاستعماري الصهيوني في الشرق الأوسط. وحتى موضوع إنقاذ إسرائيل من خلال تحذيره تل أبيب من الهجوم السوري المصري الوشيك عام 1973 ــــ الذي يطرحه الفيلم كدرّة أعمال مروان ــــ فإنه لم يكن في الواقع أكثر من تأكيد على معلومات القيادة الإسرائيليّة التي حصلت عليها مسبقاً، سواء من جواسيس مصريين آخرين أو من الملك حسين، وبالتأكيد من الجانب الأميركي الذي كان وراء تولية أنور السادات السّلطة في مصر بعد وفاة عبد الناصر. السادات الذي ذهب إلى الحرب مكرهاً، استخدم تحضيرات ناصر ــــ الذي أقصاه موت غامض مبكر (1970) عن ساحة الأحداث ــــ لشن حرب تحريك محدودة الأهداف تسمح له بتنفيس الغضب المتصاعد في أجواء الجيش والشعب معاً بعد هزيمة 1967 المذلة. من دون ذلك، فإن موضوع الانقلاب عليه كان مسألة وقت لا أكثر وفق تقديرات الدائرة المحيطة به. ولا شك بأن السادات نسّق وقتها بشكل أو بآخر مع وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر لتنفيذ تلك الحرب على نحو يسمح بإحداث اختراق سياسي (علني) بين العالم العربي وإسرائيل، لكن تلك قصة لها حديث آخر.
تولى إخراج فيلم «الملاك« صانع الأفلام الإسرائيلي أرييل فورمن ويجسّد الممثل التونسي ــــ الهولندي مروان كنزاري شخصيّة مروان، بينما عُهد إلى الفنان الإسرائيلي ساسون جاباي بدور السادات، ولوليد زعيتر بدور ناصر ولميساء عبد الهادي بدور منى عبد الناصر. وتقدم بقيّة الشخصيات الأخرى مجموعة من الممثلين المنحدرين من فلسطين 1948، إلى جانب ممثلين إسرائيليين وأوروبيين. حوارات الفيلم راوحت بين العربيّة أو الإنكليزيّة أو العبريّة بحسب السياق الدرامي ــــ مع ترجمات نصيّة ــــ بهدف إعطاء المشاهد واقعيّة أكبر. وقد صوّرت معظم مشاهد «الملاك» في لندن في شارع لا يبعد كثيراً عن البناية التي سقط منها مروان إلى حتفه، بينما صورت بقيّة المشاهد في بلغاريا والمغرب. إلى جانب سرد المحطات الرئيسة في الحياة المهنيّة الحافلة للجاسوس، يقدم الفيلم أجواء الصراع العربي الإسرائيلي في الستينيات، والنقاشات الحادة التي خاضها المجتمع الإسرائيلي بعد حرب 1973 وتركزت حول تقصير مزعوم في إدارة مجهود الحرب لدرجة التسبب في خسائر بشريّة فادحة للجانب الإسرائيلي، في الوقت الذي كان فيه مجموع سكان «إسرائيل» لا يزيد كثيراً على ثلاثة ملايين نسمة.
موت أشرف مروان يلفّه الغموض تماماً، كما حياته الطويلة العريضة. هو سقط من شرفة شقته في وضح النهار، بينما كانت معه في الشقة إحدى الخادمات التي قالت إنها لم تلاحظ شيئاً، في حين قال مارّة وسكان مبانٍ مجاورة، صودف وجودهم وقت وقوع الحادثة، إنهم شاهدوا الرجل يهوي، بينما وقف رجلان تبدو عليهما ملامح شرق أوسطيّة يراقبان المشهد من تلك الشرفة قبل أن يختفيا. وقد اتسمت تحقيقات الجانب البريطاني بانعدام كفاءة غير مسبوق. إذ فقد المحققون أغراضه الشخصيّة بما فيها حذاؤه، واختفت من بيته ثلاثة مجلدات مجموع صفحاتها 600 يعتقد أنها كانت نسخة أولى من مذكرات شخصيّة قالت عائلة مروان إنه كان يعكف على تحضيرها للنشر. وقد وجهت أسرة الجاسوس أصابع الاتهام للموساد باغتيال مروان، وقال آخرون إن الرجل انتحر، لكنّ كثيرين يعتقدون الآن أنه قتل على يد المخابرات المصريّة بعدما أكدت مداولات محكمة إسرائيليّة ــــ قبل سقوطه بعدة أيّام فقط ــــ أن مروان كان فعلاً ذلك الجاسوس المصري الذي تصفه أوراق الموساد بـ«الملاك». وبغض النظر عن هويّة القاتل، فإن تغييب مروان مريح لجميع الأطراف بعدما استنفد أغراضه وأصبح بمثابة قنبلة موقوتة إن هو قرر أن يحكي.
مهما يكن من أمر، فإن المقلق اليوم أكثر من أي وقت مضى هو قدرة النتاجات الوثائقية والسينمائيّة والتلفزيونيّة الإسرائيليّة على اختراق الشاشات العالميّة، ومن ثم توظيف النظام الإسرائيلي لتلك النتاجات في إمرار سرديّات عبريّة عن الأشخاص وأحداث الماضي القريب، لتحتل بذلك التاريخ بعدما احتلت الجغرافيا، في ظل تغييب عربي مريب للوثائق والحقائق البديلة وغياب شبه تام عن ساحة السينما العالميّة. السرديّة اليوم عبريّة بامتياز.