«سأرقد هنا للأبدأغني لك كل شيء امتنعت عن قوله
بينما كنا على قيد الحياة»
- نيل هيلبورن -


استند اتفاق أوسلو عام 1993 إلى عملية مركبة ومسبقة، سبقها توفير مستلزمات بناء الأفق النظري للتسوية، وفهم المنطق الداخلي للتجربة، عبر قوانين الاجتماع المتحكمة والمحددات الداخلية والمؤثرات الخارجية التي أسهمت في تمهيد الأرض أمامها، واعتمدت الوسائل والفرضيات الممكنة. بما يلزم من استخدام القوة الصلبة كأداة عنفية أطلق عليها «كي الوعي» التي لم تكن كافية لقتل روح التمرد على الاحتلال. «كي الوعي» هي الاسم الحركي للحروب والاجتياحات والاغتيالات التي شنها الاحتلال في زمن أوسلو وفي ذات المناطق المظللة بالاتفاقات وبرعاية وضمانة «دولية» كما هو الاعتقاد والاجتهاد. اجتياح الضفة وغزة وقصف مقرات واغتيالات واعتقالات والعدوان يستمر، والاحتلال يزداد فجاجةً وتغولاً، فمكوناته جاثمة تأكل الأخضر واليابس، والقوة دائماً على جدول الأعمال. لكن «كي الوعي» جعل من كل ممارسة عدوانية جديدة تستولد حالة من التحدي والمقاومة، فلكل فعل ردة فعل، فكانت تستولد حالة جديدة بأساليب وفئات جديدة في المقاومة.

التلاعب بالوعي... السلام مقابل الطعام
لم تكن استراتيجية «كي الوعي» المستندة إلى القوة الصلبة وحدها تمارس لتحقيق الترجمة الصهيونية لأوسلو. لم يفل فائض التطرف الصهيوني من عضد المقاومة، فارتفاع وتيرة العنف الهمجي يعني تأجيج شعلة الكفاح، كمثل من يداوي النار بالنار، قد أصاب جسدها ولكنه ظل عاجزاً عن قتل روحها وثقافتها. ولعل مسيرات العودة في غزة والهبّات الشعبية في الخليل والقدس وحيفا وتنامي حملات المقاطعة والمناداة بعزل الكيان في العالم بعد ربع قرن على أوسلو، هي خير نموذج على ذلك. إذاً إلى جانب استراتيجية «كي الوعي»، لا بد من تفعيل استراتيجية «التلاعب بالوعي» التي تُستخدم فيها وسائل القوة الناعمة لتحقيق الاختراق والسيطرة واحتلال العقل وصولاً إلى قتل ثقافة المقاومة. أين نجح وأين فشل؟ ومهما بلغت الخطب والمقالات والدراسات السياسية من محاولات تفسير سياقات أوسلو والمآلات التي وصلت إليها، ظلت تدور في فلك تبرئة الذات عند معارضيه أو الشعور بالندم عند أصحابه أو باستمرار الذهنية الانتصارية بطريقة وهمية أحياناً. رغم أن الترويج له بدأ من موقف عبثي سواءً باعتبار اتفاقات أوسلو الانتقالية تجسد المشروع الوطني الفلسطيني وخطوة على طريق الدولة الفلسطينية! لكن كل ذلك بعدما تبخرت الأوهام، لم يسبر غور ديناميات «الحرب الذكية» التي خيضت للوصول إلى النتائج الكارثية التي نحن بصددها والتي تشكل «صفقة القرن» خواتيمها غير السعيدة.
(1970 ـ نقلاً عن «أرشيف ملصق فلسطين»)

لا ينفع الندم واللطم والوهم ولا الشتائم يمكنها أن تحل «العُقَد السياسية»! إن وجد له في النفس هوى، ولكن لن يجد في الواقع صدى. ما يفيد هو إجراء كشف حساب، وعدم معاندة واجب التقويم النقدي كمهمة وطنية للمصالحة مع الذات، ومقاربة التحولات العميقة التي أحدثها هذا المجرى بعد عقدين ونصف من الزمن، خاصة أثره في الوعي الوطني، ليس لتسجيل سبق صحافي يعلن موته، أو هل نجح بمنطق العدو أو فشل بمنطقنا؟ أما وأنه قد نجح في الوصول إلى هذه النتيجة؟! وقد قونن الأرض والإنسان معاً في قيد الاحتلال! ثم هل انتهى الاحتلال؟ أم أن أوسلو قد انتصر في تحقيق الكوميديا السوداء حيث أعاد قلب المعادلة بعد ربع قرن من «الأرض مقابل السلام» زمن التيه في عبث المفاوضات، فترافقت مقولة «كي الوعي» مع معادلة «الأمن مقابل السلام» ومقولة «التلاعب بالوعي» محكومة بمعادلة «السلام مقابل الطعام»! تبدو اليوم بجلاء أكثر من أي وقت في عملية مقايضة بين دعم الأونروا والتخلي عن العودة! ومقايضة الإنساني بثمن سياسي، والمساعدات الأميركية مشروطة بالتنازل عن الاستقلال الوطني والاستجابة للقيود الأمنية والاقتصادية التي نصّت عليها اتفاقات أوسلو، ووصلت الوقاحة إلى حد رهن التاريخ ورمزية الأسرى والشهداء ومعنى «البطولة» إلى صناديق البنوك الدولية.
تحديات الفكر السياسي في القراءة المتأنية لوضعٍ مُركب دقيقٍ وصاخب. محاولة لاكتشاف كمية التشويه التي أحدثها هذا الانكسار التاريخي في البنية السياسية والمجتمعية والقيمية. وكيف استخدم أدوات القوة الناعمة لتحقيق السيطرة، بالمنهج الذي حلله الباحث الروسي سيرجي قره - مورزا في كتاب «التلاعب بالوعي». إذ استطاع المرء بما يملكه من قدرات فكرية ولغوية، أن يعرف الوعي وأساليب التلاعب به، ويبيّن ديناميات التدمير الذاتية كوسائل حديثة للهيمنة والتأثير الروحي للناس وبرمجة سلوكهم، بل تغيير دوافعهم وأهدافهم والتحكم بالميل التاريخي للأحداث، والسيطرة على الحافز الروحي بالاتجاه الذي تريده السلطات النافذة.

اتفاق أوسلو … فشل أم نجح؟
لا ينفع الجدل البيزنطي وروما تحترق، عن معايير الفشل والنجاح، وإن كان قد مات أو ما زال على قيد الحياة؟ وهل كان ممراً إجبارياً أم خياراً طوعياً؟ هل هو بداية الهزيمة أم نتاج لها؟ هل أنهى الصراع أم أعاده إلى بدايته؟ آلة القياس الحقيقية للنصر والهزيمة، تتعلق بهزيمة الوعي وليس بالهزيمة العسكرية، وحصيلتها يكون نصراً أو هزيمة السياسية، وثمة بلدان تتحرر من الاستعمار ولكنها ترزح تحت وطأة ثقافته إلى زمن وقرون. لذا نقد الذهنية التي تستمر حتى لو سقطت الوثائق، الفكرة كانت صائبة أو خاطئة ليس بالسهولة هزيمتها، وكذلك قد يتحول أوسلو كوثيقة ونصوص إلى خرقة بالية وباهتة بانتهاء مدته القانونية والانتقالية، ولكن ثقافة أوسلو لا تزال حية، وإن ماتت تفاهمات أوسلو المنتهية الصلاحية لكن مفاهيم أوسلو لا زالت حيّة ترزق وسارية المفعول. لطالما كان منطق الاحتلال هو تكريس نفسه بشتى الطرق، فكيف إن كان قائماً على نفي؟! مستقوياً بخيباتنا ونواقصنا ونقاط ضعفنا وميزان القوى هو نتاج لما فعلته أيدينا من أخطاء ومنها خرافة تعتبر أن أوسلو نهج وطني لتحرير الأرض من احتلال إحلالي!

الحل الإقليمي... اتفاق أوسلو عربي!
ندرك خطورة أهداف المشروع الصهيوني التوسعي للنيل من المنطقة بأسرها، حتى لو كان محتجزاً خلف السور الواقي وفي «دولة الغيتو»، عملاً بوصية شيمون بيريز (الحدود الآمنة ليست بديلاً من العمق الآمن) وذلك من خلال اختراق العقول وتعريب فكرة الكيان الصهيوني من واقع الحل الإقليمي، الذي هو الاسم الآخر لاتفاق أوسلو عربي، يدمج دولاً عربية تحالفات إقليمية تكون «اسرائيل» دولة مركزية في محيط إقليمي وتخلق لها أدوات محلية «للعمل الأسود» تمنحها حق الحكم داخل غيتوات منفصلة. وما «غيتو غزة» إلا تجديد لأوسلو المنتهية مدته بأسلوب أكثر ابتكاراً، حيث يعيد المشروع الإمبريالي تجديد ذاته أيضاً بمزيدٍ من الاحتلال مستنفراً احتياطه الرجعي وباندفاعاته التطبيعية السياسية والثقافية والاقتصادية والسياحية والفنية في سبيل تحسين صورة الجلاد، وأنسنة القاتل وممارسة القتل المتسلسل للإنسان والأرض والروح وتشويه صورة الضحية وشيطنتها وتمزيق وحدتها وتماسكها وغايتها الجامعة باعتبارها الخصم «العدو» الذي يستحق الإبادة السياسية.
آلة القياس الحقيقية للنصر والهزيمة، تتعلق بهزيمة الوعي وليس بالهزيمة العسكرية

هكذا كانت تعمل الآلة الإعلامية الصهيونية وما زالت وتحت ستار السلام، ومظلة أوسلو! ولكن الأسوأ من ذلك أنّها ليست وحدها من يمارس مهمة الدعاية وتشويه المقاومة عبر التلاعب المنهجي بالوعي باعتبارها «إرهاباً»، بل واعتبار «العدو» صديقاً وبالعكس، بالطريقة التي وصفها جدعون ليفي في «هارتس» «إنها معركة من أجل تسويد صورة الضحايا وإثارة الشك في مسألة لجوئهم، هي المعركة الأكثر وقاحة من بين المعارك».
ما ينفع أكثر من الندم ويفيد البلاد والعباد هو فضيلة الاعتراف بالخط الذي أسهم في تقديم أوسلو كخيار سياسي وليس خديعة وأداة لاختراق الوعي الفلسطيني والعربي، انطلاقاً من تجزئة وتفتيت ركائز المشروع الوطني الفلسطيني. ومضاعفة هذه الفضيلة تكتمل بالشروع في عملية تصويب المسار الخاطئ الذي أسهم في إحباط الوعي الوطني لدى الفلسطينيين عموماً من الواقعين في أسر الاحتلال منذ 1948، وإلى تخدير الوعي عبر إشاعة التفاؤل بأن إقامة سلطة وطنية فلسطينية على الأرض المحتلة بعد 1967 (الضفة الغربية وغزة) ككيانية وطنية سيؤدي إلى مضاعفة «الوطنية الفلسطينية» مرات أخرى لدى الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده. مورس عليه عملية مسح دماغ مبرمج فردي وجماعي تحت تبرير أنه الحصاد الموضوعي الممكن، والاستثمار المتاح والقطاف المستحق لما أبدعته الثورة المعاصرة والحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصة مرحلة انتقال مركز الصراع إلى قلب الوطن وعبر «الانتفاضة الأولى» – انتفاضة الحجارة - لعام 1987 ثم جاء اختبار الوعي المحقق في سياق «الانتفاضة الثانية» ومنذ 2001 حتى 2004، والمعبر عنه بالشعار الناظم «الحرية والاستقلال»، وما تلاها من هبات نضالية وإبداعات شعبية وأنشطة كفاحية متنوعة.

اللاوعي... الرقيب الذي يشبه «الأخ الأكبر»!
لقد جنَدت الدول المانحة كل إمكانياتها المتاحة لمأسسة التسوية وترسيخ مفاهيمها وخلق قاعدة اجتماعية مبنية على إحداثيات ثقافية وفَرته الاجتياحات الأكاديمية التي تسللت بين ثنايا المجتمع، مزودة بحجج تأهيلية مقنعة ومخادعة كونها تتجاهل الخصوصية الوطنية بشكل عام، وتشترط إحداث تغيير في قيم المجتمعات الإنسانية، بل احتلال أفكارها وتفكيك غايتها الجامعة واستبدال حقها التاريخي بمسميات زائفة تتلخص بهدف دعم مسيرة السلام، وادعاء تسريع حل الدولتين! ما يحدث في الواقع، جعل أنّ هناك عملية سلام لكن بدون سلام، ومفاوضات من أجل المفاوضات، والأسوأ هو سعة خيال كتبة سيناريوهات مسيرة السلام عند الحديث المتكرر عن «إحياء عملية السلام» وما تحتويه هذه السردية من القصص الساترة التي تجرى خلفها عملية أكثر دراماتيكية لمشهد يلتهم المزيد من أراضي الفلسطينيين، وأكثر كوميدية لمشهد فاضح يعمل على ترويض الواقع من أجل إعاقـة أيّ حل، وكذلك باستنفاد مقولة ربط عملية التنمية بالإصلاح. لم يكن الواقع مسرحاً لتقديم عرض عبثي لحصيلة ربع قرن من عملية أوسلو، بل تشريح للوعي المصاب بلوثة الوهم و الانبهار والدهشة، وحالة نتج عنها فقدان المناعة الوطنية وخلق طبقة من المنتفعين والفاسدين والسماسرة والمطبعّين والزبانية، المتشبثين بالمصالح الذاتية والسلطوية على حساب المصلحة الوطنية والمستفيدين من الوضع القائم باحتلاله وانقسامه.

(1968 ــ نقلاً عن «أرشيف ملصق فلسطين»)

بين الوهم والحقيقة، هناك من وقع في فخ المنسق الأميركي لقوات أمن السلطة الفلسطينية الجنرال دايتون الذي قاله لمعهد واشنطن عن وظيفة الدعم المالي بأنها سوف تستخدم «لتحري خيارات لخفض وجود الجيش الإسرائيلي». يترسخ في الوعي الباطني أن هدف الدعم المالي الأميركي هو «خفض الاحتلال» بينما العقيدة الأمنية وحسب نصوص أوسلو هو «التعاون لمحاربة الإرهاب». وظيفة التمويل لخدمة السياسة وليس العكس، ولكن التحولات الاجتماعية الناتجة عن هذا التمويل أسست لشكل من أشكال اللاوعي كي يبقى رقيباً غير مرئي بما يشبه «الأخ الأكبر» في رواية جورج اورويل. بل إن آثاره الثقافية المضادة تترك بصماتها الحادة في ترويض وعي الشخصية القابعة تحت الاحتلال، لتحولها تدريجياً إلى شخصية مطواعة ومستجيبة ومستكينة، وإن استطاعت إلى إنسان آلي مبرمج «روبوت» بما يشبه هندسة «القبول»، وكان قد أطلق عليه صراحة «الفلسطيني الجديد». هكذا كان يُتهم الشرق دوماً بالبربرية أمام مدنية الاستعمار!

غاية التسوية… إنهاء فكرة فلسطين
هذا الوعي المشّوه والمعاكس للوعي الاعتيادي الذي أنتج مزيجاً وحشياً من المعايير والمفاهيم كأسلحة التنويم المغناطيس عبر تخدير الوعي لتمرير ثقافة أوسلو المبنية على خرافة بناء سلطة ومؤسسات مدنية واقتصاد في ظل احتلال! وخرافة أن تكون معاهدات أوسلو هي جسر للعبور نحو الدولة المستقلة، وأنّ الأموال التي تغدقها الدول الراعية للتسوية هي حقاً لخفض الاحتلال، بينما الغاية هي تحوير الصراع وتحويل الهدف من التمسك بالحق إلى البحث عن حلّ كما أكد المفكر العالمي نعوم تشومسكي بقوله إنّ العملية السياسية الأميركية/ الإسرائيلية تهدف إلى «إنهاء فكرة فلسطين». هكذا تمت هندسة أوسلو لغرض احتواء الوعي الاجتماعي وتطويع إرادة التحرر الوطني بما يخدم مصالح ومبادئ وإيديولوجية الهزيمة، التي تعممها القوى المهيمنة والمستعمرة والراعية للمسيرة التسووية. وتكمن خطورة هذا التحكم بالوعي وقت اشتداد الصراع بهدف إغراقه بالأفكار والمفاهيم المتناقضة، والكلمات التي تدل على معانيها. وهنا يظهر دور الثقافة المضادة في تجريد فلسطين من معانيها ورموزها وتحويلها إلى «لوغو» لا يدل عليها. قد يبدو الأمر بسيطاً، لكن بناء الصورة يسبقه الإطار المناسب لها، وأي قراءة في مركبات وآليات اختراق الوعي، تستوجب منّا فهماً لعملية وأدوات القتل الممنهج للرموز المعنوية كما المادية ومنها عملية اعتداء على «اللوغو» من الكوفية كمشهد يدل على هوية وشخصية وقضية فلسطين، وليس «موديل» مغاير تماماً لهذه الحقيقة، ثم هوية المخيم وما يجسده كشاهد على القضية، إلى حالة ترمز للبؤس، وبؤرة توتر وخوف وإرهاب. صورة المناضل إلى صورة موظف وسيادة اللواء مكان الفدائي، والمدير مكان الثوري، وصراع على الموقع والرتبة والمرتبة والمنصب والاستحواذ على مكانة في السلطة، يقتنع أصحابها بأنها سلطة من دون سلطة، فشلت في منطق الدولة وخسرت منطق الثورة.
بعد ربع قرن من ثقافة أوسلو التفكيكية التي عملت وفق سياقات منهجية واستندت إلى مقدمات وعوامل البيئة الداخلية والاجتماعية والمصالح الطبقية وحتى السايكولوجية عبر اللَعب بالمتخيّل، بعدما احتل العدو اللغة السياسية الجديدة فصار الشريك في السلام، والمحتل هو الجار، والأراضي هي مناطق، والفلسطيني يُعرّف بـ«سكان المناطق»! والبلدات المحتلة هي مناطق متنازع عليها. توزع الوطن على حروف أبجدية وأرقام وجدارات وطرق وحواجز... الخ والزعامة التحررية استبدلت بالمفاوض المخضرم أو الخبير أو كبير المفاوضين. ويتداعى التفكيك صوب الحديث عن التهدئة بدل المواجهة، والمصالحة تحل مكان الوحدة وهكذا دواليك... فضلاً عن أسلوب اغتيال أو اعتقال القادة ورموز النضال أو الزعامة القادرة على تقديم نفسها بشكل جيد، وغالباً ما يتم وصفهم من قبل شعبهم بأنهم قادة ورموز وطنية و«كاريزماتيون». ويذكرنا بالعبث برمزية تشي غيفارا وتحويلها إلى صورة فارغة من معناها ومجرد «لوغو» للاستهلاك في سوق الغرب الرأسمالي ومن ثم حرب على اللغة واحتلال المفردات وعبرنة الأسماء والأمكنة ومناهج التعليم... إلخ.

«اقتل الهندي واستثن الجسد»
قيل إنه في المجتمعات العادية، يلجأ المتحكمون بالقناعات بقدر أقل إلى العنف الجسدي، لأنهم يحلون البرامج الدعائية محل الترهيب والقمع والعنف في المجتمعات التي تقع تحت الاحتلال. نتذكر الإبادة الثقافية للهنود الحمر خاصة وفق مقولة «اقتل الهندي واستثن الجسد»، تماماً كما قال برغمان عن أسرار الموساد الصهيوني في كتابه «اقتل أولاً» إنّه «يمكن تغيير التاريخ من خلال قتل القادة، ولكن في كثير من الأحيان ليس بالطريقة التي تتوقعها». لذلك، جرى تشتيت ممنهج للنواة الثقافية من أجل تقويض دور التنظيم الوطني والسيطرة على الكتلة الحرجة اللازمة للتغيير، وهذه النواة المستحدثة تبنى من خلال تفريخ المؤسسات المدنية وغير الحكومية، وتطرح نفسها كأداة مدنية بديلة لتقود الناس والوعي الاعتيادي تحديداً، وتحركهم للمطالبة بحقوقهم المدنية الفردية، وليس الجماعية، والخاصة وليس الوطنية. وأصبحت صفة «المستقل» من لزوم التغيير المجتمعي وبديل من السلطات السائدة بمختلف أنواعها، وأصبح البحث والدرس والتمحيص والقراءات المستفيضة والمتعددة وفي ذات الفكرة لذاتها، وقد يحقق ذلك غاية التلاعب بالوعي وجعل صحة الفكرة يكمن في تكرارها وانتشارها وتردادها وليس بأصالتها. لذلك استحدثت أدوات مساعدة وفرق مهنية محلية ترويجية لثقافة دخيلة من خلال التقنية الحديثة بديلاً من المؤسسة الوطنية الجامعة حيث لم تعد الديمقراطية مقياساً حضارياً، إنما بضاعة أيديولوجية استخدامية.

الوعي التحرري… تحرير الوعي
بعد ربع قرن على أوسلو، قف وفكر! الذكرى هي صرخة لاستخلاص الدرس التاريخي أنّ قتل الفكر أشد ايذاءً من قتل الجسد، ولكسر حاجز العدمية من جهة، والحلقة المفرغة من جهة أخرى. دعوة لتحرير الوعي من الخديعة والتشويه والتزييف والتلاعب، فالمراجعة الموضوعية هي صدق مع الذات أولاً، وهي وعي الذات ثانياً، ودونها فإلى المزيد من مراكمة الفشل والهزائم. فثقافة التسوية هي التي مهدت للتصفية، ومثال تبني قانون القومية العنصري. ورغم أنّه جرعة ايديولوجية زائدة وفّرته سنوات الهوان والبيئة الإقليمية والدولية الرخوة، لكنه لن يخرج الكيان من أزمته الوجودية، وقد تطرح علينا مواجهة مختلفة بعدما تعرّى وجهه العنصري القبيح نهائياً أمام العالم.
تمت هندسة أوسلو لغرض احتواء الوعي الاجتماعي وتطويع إرادة التحرر الوطني بما يخدم مصالح ومبادئ وإيديولوجية الهزيمة


لم تدفن بعد جثة أوسلو بعد إعلان موته! علماً أن إكرام الميت دفنه. فإصدار النعوة لا يكفي، ينبطق عليه صفة رائعة ماركيز «قصة موت معلن» طالما روحه تستنسخ من جديد في ما يسمى صفقة القرن. والمراجعة النقدية ليست تعويذة من الشيطان، فقط يجري المطالبة بها كي تتحقق، فمن يجرؤ على قرع الجرس؟ وهل من فشل في البناء يمكنه القيام بالمقاومة؟ تلح الذكرى وروح المسؤولية والشجاعة والنزاهة الفكرية ودور العقل السياسي العربي أن ينتفض على السائد وأقلها أن يقدم نقداً ذاتياً جريئاً وبنّاء، بعيداً عن «الطموح الأعمى» الذي لا يرى في اللوحة إلا السواد دائماً، أو البياض فقط. فلا ينبغي أن يكون الشخص على صواب في جميع الأوقات وأن أسباب خسارتنا يتحملها غيرنا وليس نحن أنفسنا، وإلا لماذا وصلنا إلى هذه النتيجة؟ حين يكون العقل سلاحاً، فهو لن يسمح باستخدامه كمادة استخدامية أو استهلاكية، وتحت رحمة خطاب الغرائز والعواطف والوهم والعفوية والنمطية، التي تتحكم بالفكر بدل المحاكمة العقلية. نحتاج إلى هذا البعد العقلي المغيّب قصداً الذي يبقى متّسقاً علمياً وقوة معرفية في كل الأوقات بعيداً عن التلاعب بالرغبات، وفي سياقات بناء الوعي الذاتي هو عملية تستمر مدى الحياة. وغير مجد منطق الاستهانة بالتجربة الكفاحية للشعب الفلسطيني مهما كان مستوى من يتصدر دفة القيادة.
الاكتفاء بالقول إنّ اوسلو فشل أو نجح هي محاولة لإجهاض النقد وتنفيس للمراجعة. ومن هنا يبدأ السؤال المرجعي في سبيل إعادة بناء الوعي وترميم «الوطنية الفلسطينية» بكل مقوماتها النضالية والتنظيمية والنظامية، واستعادة البناء الوطني عبر تمرد أخلاقي يستعيد الذات ويخرجنا جميعاً من الحالة الراهنة معاً. والدخول في المنطقة الرمادية بات يتطلب حسماً لكن خارج النهج الرمادي ذاته، إنما برؤية استراتيجية واضحة وقيادة كفوءة لمرحلة جديدة، قادرة أن تقود المراجعة والتقييم ورصد معايير النصر والهزيمة. قيادة مؤهلة بالوعي الذاتي والثقة بالنفس، وبوجود شعور قوي بقيمة الذات وقوة المخيّلة والابتكار، ومسلّحة بالذاكرة التاريخية وبالحق التاريخي وحقيقة التحديات المصيرية وتطلعات شعبنا.

* روائي وقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين