مع بداية العام الحالي، أصدرت جمعية «عِرَبْ» (بدعم من «الصندوق العربي للثقافة والفنون ــ آفاق») كتاباً بعنوان «نجمات الغناء في الأربعينات اللبنانية» للمؤلفين محمود زيباوي وأسعد مخول. يسلط الكتاب الضوء على فترة غنائية من تاريخ لبنان، عائداً إلى مرحلة لا نعرف عنها الكثير، سوى بعض أسماء نجمات تلك المرحلة، أو ما وصل إلينا منهن. يحاول المؤلفان الوقوف عند تلك المرحلة الغنائية بالتدقيق والبحث، محاولين الابتعاد عن السردية المتداولة والرجوع إلى أرشيف الصحافة والإذاعة، كشاهد حيّ غير متأثر بعوامل الزمن. يضيئان على مرحلة فنية غابت تحت ركام الأتربة والنسيان، رغم أنّ «الأربعينات تعتبر البداية الحقيقية. فالبحث عن هوية للأغنية اللبنانية بدأ خلال تلك المرحلة» على حد تعبير محمود زيباوي.

يدخل الكتاب إلى تلك الحقبة من خلال نجمات الغناء آنذاك، اللواتي بلغ عددهن 12 في الكتاب هن: نور الهدى، صباح، سهام رفقي، نورهان، نهوند، سعاد محمد، نجاح سلام، نازك، زكية حمدان، حنان، أوديت كعدو، بهية وهبي، التي حملت اسم «وداد» بعد اقترانها بالموسيقار توفيق الباشا. يعود الكتاب إلى سيرة بدايات تشكل هوية الغناء اللبناني، محاولاً فهم تطوره والتعمق في فترة لها دلالات كبرى في فهم طبيعة وتشكل هذه الهوية. لا يمكن فهم أي حقبة فنية من دون مقاربة زمنية توضح السياق الذي تشكلت فيه هويتها. يصنع الكتاب هذه المقاربة من خلال أربع أسطوانات تضم أغنيات مطربات تلك المرحلة (غير متوافرة على يوتيوب)، إلى جانب احتوائه على صور عدة وأفيشات حفلاتهن ورحلاتهن بين مصر ولبنان وسوريا والعراق ونبذة مفصلة عن سيرة كل منهن. يلتقط خيوطاً تربط بين نجمات الأربعينات، وأهمها هجرتهن إلى مصر، للعمل في السينما والغناء على مسارح القاهرة.
محمود زيباوي، الذي يتنقل بين أشكال مختلفة من الكتابة، اشتهر بكتاباته البحثية في الأرشيف الموسيقي، والمعرفة الواسعة بمراحل موسيقية عدة، أهمها مرحلة الرحابنة. هو لا يتوقف عند كونه كاتباً وباحثاً في التراث الموسيقي، لكنه يملك أرشيفاً هائلاً من الصحف والمجلات والصور، التي توثق مراحل فنية مختلفة. لا يخفي زيباوي ولعه بعالم الغناء وأطيافه المتعددة، ما أخذه من الكتابة المتخصصة في الأيقونة إلى عملية التوثيق الموسيقي. يقول لنا: «من يعرفني منذ نعومة أظافري، يدرك ولعي بعالم الغناء بأطيافه المتعددة. أكاد أقول إنيّ متخصص في الغناء الفرنسي والإيطالي، كما متخصص في الغناء العربي، وهذا عن شغف. لدي سبعة كتب مترجمة إلى أكثر من ستّ لغات عالمية، وجميعها بالفرنسية.
نور الهدى وصلت إلى قمة المجد ثم انهارت وأصيبت بالجنون

أصبحت صورتي مرتبطة بالكتاب الأول عن الأيقونة، لكن باقي أعمالي كله يتفرّع إلى فنون مختلفة. منذ ١٤ عاماً، بدأت أكتب مع جريدة «النهار» وأصبحت مقالاتي متنوعة، ثم دخلت الكتابة عن عالم الغناء من طبيعة الإلمام مع السنوات، سواء بالأخوين رحباني وفيروز أو محمد عبد الوهاب».
لم تكن بدايات الكاتب مع الرحابنة مجرد عملية بحثية عن تلك الحقبة الفنية بالتحديد، لكنها أوصلته إلى فكرة الكتابة والبحث عن المرحلة التي سبقت تشكل الهوية الغنائية في لبنان.

نور الهدى

وحول بداية الفكرة معه، يعلّق: «فكرة هذا الكتاب كانت مقالة طويلة نشرتها عام 2011 في ملحق في جريدة «النهار» مع غلاف وأربع صفحات. بدأ الأمر معي حِينَ كنت أفتش عن بدايات الأخوين رحباني، ليس عن روايات منصور لأنّي مقتنع أنّ من يريد إجراء بحث، لا يمكنه الاعتماد على روايات صاحب الشأن، لأن الأخير سيعطي سيرة انتقائية وغير كاملة، وفي خريف العمر قد تخونك ذكرياتك. وقتها، وجدت عند صديق لي هو ملك الأرشيف عبودي أبو جودة مجلدين لمجلة الإذاعة يرجع تاريخهما إلى عامي 1948-1949». ويضيف: «قلت أخيراً سأعرف بداية الأخوين رحباني. وهكذا كتبت مقالي «البدايات المجهولة للأخوين رحباني»، وفعلاً أصبحت أعرف متى دخلا الإذاعة للمرة الأولى، ومتى ظهر اسمهما للمرة الأولى في برامج الإذاعة. لكنني اكتشفت أيضاً عالم الأربعينات الغنائي، الذي نعرف منه بعض الأسماء المشهورة، وأسماء أخرى لا نعرف عنها شيئاً. وتعرفت أيضاً إلى أسماء ملحنين في تلك الفترة. بعد فترة من البحث والأرشفة، أصبحت لدي مادة صالحة للكتابة والنشر».
استغرق زيباوي نحو سبع سنوات في عملية البحث، معتمداً على المنطق الأكاديمي «كأني أكتب أطروحة». ويشير أيضاً إلى أنّ الكتاب ارتبط بالسيدات والنجمات، ليس لعدم وجود نجوم رجال في تلك المرحلة، لكنهم أقل بكثير، وهو ما أشار إليه أيضاً في مقدمة الكتاب. ولا يخفي أنّ السؤال حول عدم وجود نجوم رجال في تلك الحقبة، قد طرحه على نفسه أثناء العمل على الكتاب، لكنه يبرر ذلك قائلاً: «هؤلاء النجوم انطفأ بريقهم سريعاً».
يعود ويفصل مسألة انتماء بعض النجوم الكبار إلى تلك الحقبة أو عدمه: «في الاربعينات، كان فيلمون وهبي مطرباً، لا ملحناً. ووديع الصافي لم يكن مشهوراً وقتها، حِينَ دخل الإذاعة عام 1939 ولم يلمع، ثم سافر إلى أميركا في منتصف الأربعينات. وعاد بعدها بسنوات، ولمعَ للمرة الأولى في أغنية «ع اللومة» عامي 1952 و1953، بعد ذلك في نهاية الخمسينات، حمل اسم مطرب لبنان الأول عام 1959. وأشهر مطرب في تلك الحقبة كان صابر الصفح الذي كان يلقب بـ «عبد الوهاب لبنان» ولا أحد يعرفه اليوم. وكان محمد سلمان أيضاً مشهوراً وقتها، لُقّب بمطرب العروبة قبل العروبة نفسها».

صباح

بدا محيراً في الكتاب اختيار المرحلة الزمنية عن غيرها، ما قد يضفي إحساساً أنّ للكاتب تفضيلاً لنجمات تلك الحقبة. لكنه لا يجزم بالتفضيل: «كل حقبة فيها مطربات بقدر حقبتنا اليوم. الاختيار كان زمنياً مرتبطاً بالأربعينات التي تشكّل البداية الحقيقية للغناء اللبناني». ويرى أنّ دور الإذاعة في تلك المرحلة كان قوياً ومؤثراً «لأنه لم يكن هناك تلفزيون ولا شرائط. منطق الإذاعة أيضاً كان مختلفاً وقتها، فالإذاعة كانت المنتج الرئيس للأغاني»، ويضيف: «أي إنسان دخل الإذاعة بعد تأسيسها، لديه أغنيات لا تحصى. أيضاً إلى جانب الإذاعة، كانت الملاهي، التي تختلف عن صورتها الآن».

نجاح سلام

تحدث الكتاب أيضاً عن تغير الصورة الذهنية عن الملاهي الليلية، وتغير طبيعتها. ففي أربعينيات القرن الماضي، كان الطرب جزءاً من الفقرات الرئيسية في الملاهي الليلية. لم تقتصر الملاهي والطرب على مصر ولبنان فقط، لكن كانت هناك في العراق أيضاً ملاه مشهورة لها جمهور كبير. ووفق ما ذكره زيباوي، وجد بعض المطربات نجاحاً في العراق أكبر من الذي وجدنه في لبنان، على رأسهن نهاوند.
وعند سؤاله عن النجمة التي أثرت به، يجيبنا بنور الهدى «لأنها مليئة بالتراجيديا وقد مسّني ذلك. حتى إحسان عبد القدوس كتب قصة مشابهة لحياتها. نور الهدى وصلت إلى قمة المجد ثم انهارت، إلى درجة أصيبت بالجنون». ويتوقف عند صباح الذي «رسبت ثلاث مرات في امتحان الإذاعة، واعتبرت مطربة صغيرة الصوت يومها»، قبل أن تتحول إلى ظاهرة وأسطورة خالدة. تفصيل يعيدنا إلى سؤال عن العوامل التي أسهمت في نجاح أو فشل هؤلاء النجمات. يجيبنا زيباوي بأنّ الصوت لا يكفي مهما كان جميلاً، فـ«هناك عنصر الكاريزما الشخصية، إضافة إلى الملحّن.
صباح رسبت ثلاث مرات في امتحان الإذاعة ومحمد سلمان لُقب بمطرب العروبة قبل العروبة نفسها

هؤلاء الفنانات الـ 12 يعود نجاحهن إلى ستّة ملحّنين: نقولا المني وسامي الصيداوي، وفيلمون وهبي في الغناء اللبناني، وعبد الغني الشيخ في الغناء البدوي (مع سهام رفقي)، ومحمد محسن في المصري (مع سعاد محمد وغيرها)، وخالد سلطان في القصيدة الحديثة». في النهاية، يجد زيباوي نفسه مفضلاً غناء الأربعينات عن الفترة الحالية، التي لا يجد نفسه فيها. مشروعه المقبل الذي باتت مواده جاهزة تقريباً، كناية عن ثلاثية موثقة عن الأخوين رحباني، يدقق فيها المعلومات عنهما بشكل أكبر. يشرح: «الجزء الأول سيغطي مرحلة الإذاعة من عام 1948 حتى 1955. الجزء الثاني يشمل عصر الأسطونات والمهرجانات حتى 1967. ويأتي ختام الثلاثية ليغطي المرحلة اللاحقة لغاية مرض عاصي عام 1972».