تحتفي «دار النمر» بالرسام والتشكيلي والنحات الفلسطيني توفيق عبد العال (1938-2002) عبر معرض استعادي («إيقاعات زمن مختلف») لاسم يعدّ واحداً من جيل الروّاد في عالم التشكيل وأحد مؤسسي هذا المحترف الذي شكّل لبنته الأولى لا في فلسطين فحسب، بل أيضاًَ في لبنان.
«مواويل فلسطينية» (١٠٠ × ١٢٥سم، ألوان زيتية، ١٩٦٦)

إذ يعتبر عبد العال واحداً من أعضاء «جمعية التشكيليين اللبنانيين» الذي انتمى إليها بعدما أهدته رئيستها آنذاك معزز روضة شرف العضوية. لا يعرف الجيل الجديد كثيراً عن توفيق عبد العال الذي اعتزل الرسم قهراً بعد عام 1987 إثر تعرّضه لاعتداء من ميليشيات الحرب الأهلية في لبنان، مما أفقده بصره تدريجاً. أحد أهم التشكيليين الفلسطينيين؛ سكنته عكا المدينة الساحلية التي قدم منها حدثاً، وهو الذي أقام أول معرضٍ لرسوماته فيها ولما يزال في العاشرة من عمره تحت إشراف أستاذه في الرسم جورج فاخوري (عام 1948).
جاء معرض عبد العال بمبادرة من منسق المعرض، الفنان والتشكيلي الفلسطيني ناصر السومي. بدأت الحكاية عنده، إذ يقول لنا: «كنتُ قد كتبت مقالاً عنه عام 1980 ولم أنشره في ذلك الحين لأني تركت بيروت وذهبت إلى باريس. ظلّ هذا المقال بين أوراقي. كنت كلما وجدته بين يدي، أقول إن هذا الرجل يجب أن يأخذ حقه، وكنت أحمل دوماً هذه الرسالة لأني عرفته شخصياً، وربطتنا زمالة ثم صداقة. كنت أزوره في بيته وهو زارني في مرسمي، وكنا نجتمع أحياناً في منزل صديقة مشتركة هي جمانة الحسيني. معرفتي بعمله، جعلتني أنتبه إلى أنّه فنان لم يعالج فقط الواقع الفلسطيني المعاش (هنا نتكلم عن سبعينيات القرن الماضي)، بل بدأ قبل ذلك، لكن هذه هي الفترة التي عرفته فيها.

قصائد توفيق عبد العال

كان مصرّاً على أن يحمل معه ذاكرة المكان الذي أتى منه وهو مدينته عكا. هذه الذاكرة الطفولية (ترك المدينة وهو في العاشرة من عمره)، بقيت قوية وجارحة داخل هذا الفنان المرتعش المتوثب المليء بالحرارة والعطاء. ظهر ذلك في أعماله التي نراها من الستينيات». ويكمل السومي في مسألة الاختيار: «حين طلبوا مني أن أقيم معرضاً لتوفيق، قلت لا في البداية، إذ ليست هذه مهنتي وعندي عملي الذي أقوم به، لكن ما جعلني أفكر لأسبوع قبل أن أعطي جوابي، هو أن توفيق هو أكثر فنان بحاجة للعدالة ولإبراز رؤيته الفنية وقدراته وموهبته. كنا نرى توفيق في الظل وليس في الواجهة. لكن عندما ترى عمله، يعود إلى المقدمة ولا يبقى في الظل. وهذا لم يكن ليحدث بدون معرض أولاً، وثانياً بدون جذب الانتباه إلى قوة لوحاته وفنّه. إذا علّقت لوحاته، سيأتي شخص ينظر إلى اللوحة ويرحل، لكن هذا العمل في المعرض والنصوص التي كتبها الراحل، وكتبت عنه وعن علاقته بمدينته... كل هذه العناصر تجعلنا نرى الروابط التي أتى توفيق منها وكانت خاصة بالنسبة إلى المرحلة التي عاش فيها، خصوصاً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي». هكذا يشرح السومي كيف كان اختيار عبد العال، لكن كيف جاء اختيار اللوحات المتوزعة على فضاء «دار النمر»؟: «اخترت اللوحات التي كنت أعرفها أكثر، وهي تلك الموجودة في الداخل (مشيراً إلى القسم الداخلي من المعرض) وكانت تلفت انتباهي دوماً. نظفناها وأعيد ترميمها. وكان توفيق قد تعرّض لحادث وبقيت لوحاته مخفية إلى وقتٍ طويل يكسوها الغبار. لذلك، استغرقت الكثير من العمل لتعود إلى حالتها السابقة».
الملفت في المعرض أيضاً هو بعض اللوحات الصغيرة الموضوعة بطريقة مربعات على الحائط، يحكي السومي قصتها: «ما فعلته أيضاً أني أخذت تفاصيل من بعض اللوحات التي تبدو لوحات تجريدية. الفكرة أن أجعل الناس ينسون اللوحة ككل، وينظرون إلى تفاصيلها. عندما ينظرون إلى لوحة عن الصيد، يفكرون فقط في الصيد ولا يرون التفاصيل المدهشة في عمله. هذه التفاصيل هي بمثابة لوحات فنية تجريدية من الخمسينيات مثلاً. نحاول هنا أن نلفت الانتباه إلى قوة توفيق الفنية والثقافية، وهذا كان بمثابة هدف بالنسبة إليّ». ويختم: «هو يرسم حلم الفلسطيني في العودة إلى أرضه والتجذر من خلال رسمه لنبتة الصبار». ويؤكد السومي أن المعرض استمر العمل عليه لأكثر من 10 أشهر متواصلة؛ من خلال انتقاء اللوحات وترميمها وإعدادها، مع كل التفاصيل واختيار القصائد المناسبة وكل ما إلى ذلك، فضلاً عن الفيلم الذي صوّره السومي في مدينة عكا مسقط رأس عبد العال ويقدَّم في المعرض للمرة الأولى.

«نافذة وذكريات» (١٠٠ × ١٣٥سم، ألوان زيتية، ١٩٦٦)

على الجانب الآخر، يحدّثنا طارق عبد العال نجل التشكيلي الراحل عن أهمية المعرض بالنسبة لهم كعائلته، قائلاً: «أهمية المعرض هي ثلاث أشياء. الأولى أن هناك مجموعة من اللوحات لم يعرضها توفيق عبد العال سابقاً، وبالتالي كان من الجيد أن نخرجها إلى النور كي يراها الجميع. الأمر الثاني أن أعماله تعرضت للتدمير مراراً وتكراراً: في 1982 من قبل العدو الإسرائيلي، حين ضربت «دار الكرامة» حيث كان معرضه. في العام نفسه (وتحديداً في أيلول/ سبتمبر 1982) ذهبوا إلى مستشفى عكا حيث كان مرسمه وأرشيفه، وأحرقوه بعد مجزرة صبرا وشاتيلا. هذا الأمر تجدد عام 2006، حين تعرض منزل العائلة في حارة حريك إلى ضربة غير مباشرة من القصف الصهيوني، فتضرر الكثير من الأعمال. الآن قمنا ببعض التجميع والترميم والتنظيف لإبراز الوجه الثقافي للشعب الفلسطيني الذي يحاول الإسرائيلي طمسه والقضاء عليه. الأمر الثالث والأخير أن نبرز الوجه الثقافي للشعب الفلسطيني والشخصيات التي تعرضت للاعتداء المباشر من قبل العدو وغيبت عن الساحة لأن لديها موقفاً فكرياً معيناً». على الجانب الإنساني، يشرح طارق كيف أن والده كان مرتبطاً بمدينته عكا ارتباطاً شديداً وأساسياً مع أنه لم يزرها بعدما خرج منها في عام 1948: «كل شيء بالنسبة إليه يدور حول عكا. حين يحكي عنها، نظن أنها مركز الكون ليس فقط مركز الكرة الأرضية. صرت أعرفها من توصيفه لها زقاقاً زقاقاً من دون زيارتها». في المعرض أيضاً منحوتات جميلة لسيدات، ويؤكد طارق أن جميع منحوتات توفيق عبدالعال هي لسيدات، مشيراً إلى «إحدى المنحوتات التي تحمل اسم «الحالمة». كانت لهذه المنحوتة عينان حين صنعها عبد العال قبل عام 1982. أما بعده (يقصد بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان)، فقد أحضر الإزميل ومحا عينيها كأنه يقصد أنها توقفت عن الحلم بعد ذلك العام وانكسار الثورة». أما أكثر ما يذكره منه فنياً، فيجيب طارق: «أنا شخصياً كنت أراه وهو يرسم. كان يمسك الريشة ويرسم من دون أن يضع خطط عمل. قد ينجز اللوحة في ساعات، يضعها جانباً ويكمل العمل فيها لاحقاً، لكن الفكرة كانت تنساب بعد انطلاقه في الرسم من دون أي خطوط سابقة». أما شخصياً؛ فيؤكد طارق أن واجبه أن ينقل إرث والده ويعرّف الناس والأجيال القادمة عليه، هو الذي «كان يقول لي: أنت الصخرة التي عليها أبني. لذلك أشعر بأن هذا هو إرثي وعلي أن أحميه وأنشره».
ذاكرته الطفولية في مدينته عكا، بقيت قوية وحاضرة في لوحاته


في الختام، هل سينقل المعرض إلى الداخل الفلسطيني في استعادة للفنان من داخل أرضه؟ يشير السومي: «لا يمكن نقل المعرض نفسه إلى فلسطين والعودة به إلى هنا بسبب صعوبة الدخول والخروج إلى الأرض المحتلة. الفكرة التي خطرت لي أن ننقل اللوحات المطبوعة طباعة Digital. أنا أدافع عن جذب الانتباه لقوة توفيق عبد العال التشكيلية ويكفي أن نعرض هذه الأجزاء وثلاثة من لوحاته الكبار (بطريقة الطباعة)، وهكذا تكون وصلت الفكرة؛ والفكرة قد تكون قابلة للتطبيق في معرض في مدينة بيت لحم».

* «إيقاعات زمن مختلف»: حتى 31 تموز (يوليو) ــــ «دار النمر» (كليمنصو ــ بيروت) ـ للاستعلام: 01/367013



أحلام ومقاومة
قصائد نثرية تنتشر على الحوائط كان السومي قد اختارها بعناية من القصائد التي كتبها توفيق عبد العال بعد شح بصره وابتعاده عن الرسم. هذه القصائد التي كان عبد العال يسميها خواطر ونثريات، كانت امتداداً حقيقياً لأفكاره التي كان يخطّها في اللوحات، فحكت عن الواقع المباشر كما حكت عن الأحلام بالعودة والمقاومة. أرّخ المعرض شيئاً منها على حوائطه بطريقةٍ جميلة تنسجم بشكلٍ كبير مع روح اللوحات.