دعت أنابيل ضو مجموعة من سكان المدينة إلى «المتحف الوطني في بيروت»، المكان الذي تتصدّره أربعة عواميد عالية، ودرجات تصل بيروت بأقدم تواريخ البلاد المتمثلة بالنصب، والأحجار الثقيلة والنواويس والمنحوتات التي تركتها شعوب مرّت من هنا. الإجابة عن أسئلة الفنانة اللبنانية، تحتّم على الناس الإشاحة عن هذه الهالة التاريخية، لهذا ربّما اختارت مجموعات من كافّة الأعمار لا تملك بالضرورة ثقافة متحفية أو علاقة ثابتة معه. يعدّ «شو هيدا؟» الحلقة الأولى من مبادرة «متحف متحف»، التي أطلقها «بما» (بيروت متحف الفن) على رأسه جمعية APEAL بالتعاون مع «منصة فنية مؤقّتة» (T.A.P)، بهدف تعزيز العلاقة بين المتاحف الأثرية والفن المعاصر والحديث. وقع اختيار المنسقة الفنية أماندا أبي خليل على الفنانة اللبنانية المقيمة في نيويورك التي قدمت سيراً شفوية جديدة للقطع الأثرية.
أنابيل ضو في المتحف

«متحف متحف» هو العلاقة بين متحفين، كحوار وتصادم ولقاء بين الماضي والآن. مشروع يستكمل ما بدأه BeMa قبل بضع سنوات، لتفتيت العوائق التي تعزل الناس عن الفنون، واستدراجهم إلى المشاركة في النقاشات الفنية قبل افتتاح متحف «بما» عام 2020. دُعي الناس مساء الجمعة مجدداً إلى المتحف الوطني، لكن هذه المرّة لحضور إطلاق «شو هيدا؟» بالتزامن مع «اليوم العالمي للمتاحف». في الاحتفال، عرض شريط إعلاني عن العمل، وتلاه نقاش بين أبي خليل وضو، قبل أن يُتاح للحاضرين تجريب التجهيز الصوتي الذي سيستمر في المتحف حتى نهاية السنة الحالية، بالتعاون مع «المديرية العامّة للآثار».
حاولت ضو في دليلها المتحفي البديل إعادة تعريف القطع الأثرية عبر الصوت. قبل سنوات، وجدت الفنانة المعاصرة نفسها تتخلى عن الرسم واللوحات الصامتة أمام هول الأحداث السياسية المتمثلة بالحرب الأميركية على العراق. هكذا راحت تبحث عن طرق ووسائط أكثر تأثيراً وأكثر قدرة على القول، لتلجأ إلى الكلام والكتابة واللغة والصوت ووسائط أخرى. في عملها الحالي لم تسأل الفنانة اللبنانية الناس «شو هيدا؟» حرفياً. خلال ورشة أقيمت في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي، كانت أسئلتها تحاول اقتراح هويات جديدة للمنحوتات من دون التقيّد بما تقدّمه اللمحة التاريخية المرفقة بها. المشاركون، ومنهم من لم يدخل إلى المتحف من قبل كانوا مدعوين إلى رؤية الأعمال والتفاعل معها، وأولئك الذين سبق لهم أن زاروه، أجبروا على قراءتها بعين جديدة. طرحت أنابيل ضو عليهم مجموعة من الأسئلة، لاستنطاق المنحوتات عبر الخيال والوعي: «هل قتلت حدا؟»، «مين عنده سلطة هون؟»، و«شو صار بوجّك؟»، و«إنت مين؟»، و«شو بحطوا هون؟»، «خايفة؟ خايف؟»، «انت لبناني؟»... علامات استفهام تنفذ إلى الوعي الجماعي للمتفرجين بصفتهم نموذجاً عن سكان المدينة التي تقبع فيها هذه الكنوز الأثرية. تقول جوليا قصّار في بداية الفيديو التعريفي بالمشروع «ما قلنا الحقيقة بس ما كذبنا». خلاصة أو افتتاحية تمثّل معنى العمل بأكمله، تدفعها تساؤلات متوارية كثيرة: من قال إننا بحاجة إلى الحقيقة وحدها؟ وعلام تقوم الحقائق السلطوية التي تبثّها المتاحف وترسّخها وتسهم بدورها في تأطير الهوية الجماعية؟ إلى أيّ مدى يمكننا التخلص من سلطة هذه المعلومات عند النظر إلى الأعمال؟ تتفاوت أقوال المشاركين وآراؤهم. تطفو السياسة ومآسيها الوطنية على بعض الأحاديث. ثمة ما يحيل إلى علاقتهم مع المدينة والبحر وتاريخ الحرب.
يمنح المشروع سكان بيروت الحق في التأويل وتقديم سرديات تحرر القطع من ماضيها

تنبعث أغنيتا «بيتي أنا بيتك» و«على بابي واقف قمرين» من أحد النواويس الإغريقية. يرتكز التجهيز السمعي/ الصوتي إلى هذه الإجابات المختلفة التي تتوالى على مسامعنا عبر أجهزة لوحية إلكترونية (tablets) توزّع عند مدخل المتحف مع سماعات. يقدّم الممثلان جوليا قصّار وجورج خباز مقدمة لكل قطعة كتبتها ضو بالاستناد إلى الإجابات التي تلقتها. من خلال تطبيق الدليل الذي يمكن للزائر أن يستخدمه عبر هاتفه الذكي أيضاً، تتنقّل بنا خريطة للمتحف بين الأعمال والمنحوتات المتحفية المرقّمة (أكثر من 50)، يرافقها تسجيل صوتي يشغّله المستخدم. تستنطق هذه التسجيلات القطع الأثرية. هناك وجه مكسّر يُرجِع أحد المشاركين سبب بؤسه إلى أمه التي لم تستطع أن تمنحه جنسيتها. أحدهم يعتقد أنه تلقى قذيفة هشمت وجهه وقتلت والديه. بعض الأصوات تمتلك من الفكاهة والسخرية ما يُضحك مثل فتاة ترى في إحدى القطع الفنية مساحة لوضع حذائها. هناك علاقة طويلة بين المتاحف وبين التدخلات الفنية المعاصرة، التي تغير من رؤية القطع الأثرية وتعبث بماضيها وتحرّفه لمساءلة دور الأركيولوجيا في السياسة أو أساليب العرض المتحفية. الأهم هو النقد الذي توجهه ممارسات كهذه لمن يملك سلطة التاريخ وكتابته. يعدّ المتحف الوطني وقطعه الفنية جزءاً من تاريخ البلاد الذي كتب بعد أبحاث أركيولوجية وتنقيبات كثيرة. إنه سرديته الرسمية التي صار بإمكان الزوار الاستماع إليها عبر تطبيق الكتروني أطلقته إدارة المتحف الوطني قبل أشهر لتقديم معلومات مروية عن القطع باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية. هكذا يمنح «شو هيدا؟» سكان بيروت الحق في التأويل والقول وتقديم السرديات التي تحرر القطع من ماضيها. وإذ تراوح أقاويل الناس بين الهواجس الفردية والجماعية، فإنها تقترح تاريخاً معاصراً يصل المنحوتات والنصب مع حاضر المدينة وسكانها.

* دليل «شو هيدا؟»: حتى كانون الأول (ديسمبر) المقبل ــ «المتحف الوطني في بيروت» (المتحف ــ بيروت). للاستعلام: 01/327008



ماذا عن السرديات البديلة؟
على هامش إطلاق «شو هيدا؟»، ينظم القائمون لقاء حوارياً بعنوان «القطع المتحفية كموضوع: طرق تفسيرية وممارسات فنية» في «بيت بيروت» (السوديكو) عند السابعة من مساء الخميس 24 أيّار (مايو). يتمحور اللقاء حول استخدامات القطع المتحفية لتفعيل السرديات البديلة والتعليق على الحاضر عبر طرق التفسير والأعمال الفنية المعاصرة. هكذا سيشارك كل من الفنانين اللبنانيين أنابيل ضو وعلي شري، والباحث إريك دو فيشر، والناقد الفني ديفيد ماركوس، والفنانة الهندية أفاني تانيا التي يرتكز اشتغالها أيضاً على تأويل التجارب الإنسانية الجماعية عبر القطع الأثرية والمتحفية. ينطلق اللقاء من مجموعة أسئلة مثل: «كيف يمكننا رؤية القطع الأركيولوجية والإثنوغرافية بعيداً عن السرديات المؤسساتية التي تؤطرها؟ أو كيف يمكن لهذه القطع أن تحرضنا على طرق رؤية جديدة داخل المتاحف وخارجها؟» بالإضافة إلى إشكاليات حول العلاقة بين الممارستين المتحفية والفنية المعاصرة.