تزدحم أعمال قيس سلمان (1976) بمفردات متشابكة تنطوي على احتجاجات وجودية لما آل إليه العالم اليوم من احتضار في القيم واندحار للجمال. لن نقع على بيئة محدّدة لكائناته المتوحشّة التي تبدو كما لو أنها تتقيأ عالمها الداخلي الذي يفضح قبحاً متراكماً. أشكال مشوّهة تنطوي على تحولات أفرزتها المدن الحديثة التي ألغت خصوصية الفرد لمصلحة مسننات العولمة الحادة. هكذا تتصارع شخوصه داخل معدة ضخمة لا تتوقف عن الطحن والاجترار. في معرضه الجديد «مدن» الذي تستضيفه «غاليري أيام» في بيروت، يواصل التشكيلي السوري الشاب تطوير أدواته التعبيرية إلى حدودها القصوى بقصد هتك مشهدية الجشع وطبقات القبح بما يوازي حطام الأرواح التي تغرق تدريجاً في مستنقع العفن والعنف. يكتفي بالرمادي ولطخات الأسود كعتبة أولى في اختراق الهندسة العشوائية للمدن وبشرها التائهين بين جدرانها. وفي اقتحام آخر للمشهديات نفسها، يضيف ألواناً دسمة في توضيح تكويناته ومسارب خطوطه الثخينة في استكشاف ما يحدث في العمق، والتأثيرات المتبادلة بين الكائن ومحيطه، باستدعاء عناصر ميثولوجية شرقية مازجاً إياها بمفردات معاصرة تتناسل على هيئة بثور وقيح وقسوة.
من دون عنوان (أكريليك على كانفاس ــــ 200 × 210 سنتم ــ 2017)

هكذا يوسّع قيس سلمان فتحة الفرجار أكثر. وبدلاً من الاعتناء بمفردة واحدة كما في بعض تجاربه السابقة، يلجأ نحو ما هو جمعي تعبيراً عن هبوب ريح إرهاب من نوعٍ ما، أطاحت الطمأنينة. وتالياً، فإن هذه الأعمال تأتي من موقع القلق والهجاء وتراكم أفكار ذاتية لتمزّقات اجتماعية شرسة، في مقاربات حادة لجهة الهتك والفضح والرفض. هكذا يقوم على تقويض الجدران الخارجية للمدن ودلق أحشائها على الملأ كفرجة شعبية تتداخل فيها الأصوات والمصالح والزبائنية. وإذا بتجاور كائناته يأتي من باب الحشر القسري أكثر منه خيارات فردية. لكنه في المقابل يحاول ترميم البشاعة ببؤر لونية مضادة كنوع من العزاء لمأتم جماعي، وتفكيك القبح فكرياً، على رافعة تقنية مضبوطة، لطالما اشتغل على تطويرها، معرضاً إثر آخر، بعيداً عن تعبيرية المحترف السوري، بابتكار «لوغو» خاص به، وبانخراطه في مقترحات ما بعد الحداثة من جهة، ومخاطبة متطلبات ذائقة اليوم، من جهةٍ ثانية. وكذلك، يفرط في هتك التشوهّات الراهنة التي التصقت بالجلد عبر خطاب بصري يضع في صلب اهتمامه إزاحة الأقنعة عن وجوه العنصرية والتطرّف ومظاهر الحياة الاستهلاكية، وتلك الحيرة بين المعتقدات المحليّة الراسخة، وإفرازات العولمة المتوحشّة، وتالياً، معالجة وتشريح هذه العناصر مجتمعة، بنبرة تهكمية في المقام الأول، تتيح تفكيك هذه السرديات البصرية وفقاً لمرآة المتلقّي وانفعالاته الآنية. تجسد أعمال قيس سلمان إذاً «المدن وما تحويه من خلفيّات بشريّة وحضاريّة، بوصفها خليطاً من الأيديولوجيّات المتطرّفة، ذلك أنّ الوجوه المزدحمة والأجساد ما هي إلا مكوّنات المجتمعات الصغيرة والشاملة، تتكدّس فوق بعضها وتنصهر لتكوّن المباني التي منها تتكوّن المدن». هكذا تتلاشى الأعمدة والجدران إلى نوافذ مفتوحة على يوميات متشظيّة، تحتشد بالخوف والأفواه الشرسة والغربان.

* «مدن» قيس سلمان: حتى 30 أيار (مايو) ـــــ «غاليري أيام» (بيروت) ــــ للاستعلام: 01/374450