«إنني أغني قبلما أن تكونوا فكرةً حتى»، بهذه الكلمات القويّة واجهت سناء موسى (1979) أحد الجنود الصهاينة مرةً. الفنانة الفلسطينية القادمة من قرية دير الأسد الجليلية، لا تزال تحافظ على لهجتها المحببة، وتدافع من خلال غنائها التراثي عن ثقافة عربية كاملة، لا فلسطينية فحسب. فالغناء بالنسبة إليها مقاومة، وجزءٌ مهم من معركة الوعي: «بعدما سُلِبنا الأرض، أصبحت المعركة معركة هوية وحضارة ووعي. هذه الركائز الثلاث نحن في معركة يومية عليها، فالصهيوني يحاول تقمص حياة الشعب الأصلي، الذي عاش على هذه الأرض، ليعطي نفسه شرعية ويظهر أن لديه امتداداً حضارياً وتاريخياً كما يحاول سرقة الثوب الفلسطيني مثلاً». ماذا عن المقاومة إذاً؟ تكمل صاحبة ألبومي «إشراق» (2010) و«هاجس» (2017): «طبعاً ما أقوم به هو مقاومة. حفاظنا على لغتنا العربية واعتزازنا بها ومعرفتنا لتراثنا ولتقاليدنا من خلال الأغاني التراثية، أمر يساعد الجيل الجديد على التواصل مع الأجيال الأقدم».

تطرح سناء موسى مفهوم الصراع مع الصهاينة ضمن مفهومٍ حضاري/ ثقافي لا فقط كمجرّد صراعٍ بين محتلٍّ وصاحب أرض وحق. بحسب سناء، كان التراث يمارس في القرى ضمن سياق الحياة الطبيعية للفلسطيني، أي بمعنى أن أغنيات الحصاد كانت تغنّى وقت حصاد الزرع، والعرس وقت العرس. كل هذه الأمور تصبح «نوستالجيا» حين يجرَّد الإنسان من سياقه الطبيعي ويهجَّر إلى دول لجوء. توضح لـ «الأخبار» عشية أمسيتها الليلة في «مسرح المدينة» بدعوة من «نادي لكل الناس»: «عندما سلبنا أرضنا، أصبحت المعركة معركة هوية. أغاني الأرض تصبح نوستالجيا. يسألونك عن أغاني الأرض، وهل بقي أرض لنزرعها؟ لم يبق شيء. كلها سُرقت، والمستعمر يجيرها لمصلحته فقط. أريد أن أعطيك مثالاً خارج الموسيقى والغناء واللغة هو البذور الزراعية. الآن في فلسطين، نحن نفتقر إلى البذور الأصلية التي نسمّيها البلدية. تلك البذور التي كان أجدادنا يزرعونها ويستعملونها منذ آلاف السنين، بدّلت ببذور معدلة جينياً تنتج زرعاً بلا طعم ولا رائحة. بعد فترة، ستعلن إسرائيل عن إنتاج بذور بلدية، وهي البذور التي سلبوها منا وستصبح موجودة في السوق. يأخذ الاحتلال منتجاتنا ثم يصدرها لنا بقوالب جديدة».
إذاً لماذا التراث؟ يعتقد كثيرون بأنَّ التراث فقد كثيراً من ألقه، حتى إنه بات يعتبر خارج «الموضة»؛ فهل تغنّي سناء كي تحمي التراث؟ «أنا لا أغني التراث حتى أحميه؛ هذه تفسيرات. التراث أولاً منوع وغني جداً؛ هو فسيفساء ملونة ورائعة، فضلاً عن أنه توثيق يجعلك تفهم كيف يفكر الناس. هو مثل كتاب التاريخ». هذا ما دفعها مثلاً لغناء التهليلة والسامر (فن فلسطيني في الغناء الشعبي)؟ «بالضبط. إذا فتحت هذا الكتاب (تقصد التاريخ)، تمر على فصول مختلفة تقرأها وترى حياة الشعب الفلسطيني كاملة من خلال هذه الفنون. التراث جميل، لحنه ذكي جداً.


الناس اليوم يتسابقون بحثاً عمن يقدّم لحنا أكثر ذكاء، أو لحناً خالداً. هنا يأتي السؤال: الألحان التي وصلتنا من أجدادنا الكنعانيين أي منذ 6000 سنة، أليست ذكية؟ هذه ألحان سهلة ممتنعة، بسيطة لكنها جميلة، وهذا ما ساعد الناس على حفظها وتكرارها. الألحان المعقدة لا يحفظها الإنسان، بعكس تلك القريبة الى القلب». وتختم حديثها عن التراث: «التراث جميل وأنا واقعة تحت سحره. يقولون إني أحصر نفسي فيه. هذا حصار أحبّه ولن أغني شيئاً لا أؤمن به». الأمر نفسه ينسحب على شعور المغنية الفلسطينية أثناء أدائها لأغنياتها، فهي ترفض غناء شيء لا يقترب من روحها ويتماهى معها: «عندما يطلبون أن أغني في مقابلة ما، أرفض لأن ذلك يتطلب تهيئة وتحضيراً للدخول في جو الأغنية. لا أغني من صوتي فحسب، أغني من روحي ومن قلبي». هنا تشير إلى أنَّ الطريقة في التأدية هي مسؤولية كبيرة: «هناك مسؤولية في كيفية إعادة تقديمنا للأغاني التراثية الفلسطينية بدون تشويه روحها وتقديمها في قالب من الحداثة من دون أن يؤذيها. طبعاً الحداثة لا تعني أن نذهب بعيداً عن هويتنا وتميزنا».
يذكر هنا أن سناء موسى خاضت تجربةً خاصة حين غنّت «التهليلة» الفلسطينية في ألبومها الأوّل «إشراق» بلا أي مرافقة موسيقية. مغامرة جريئة، فالموسيقى والتعديلات التقنية الحديثة تخفي عادة الكثير من عيوب صوت المؤدي/ المغني، فضلاً عن أنّها تريحه أثناء الغناء. لماذا اختارت سناء خوض غمارٍ أمرٍ شاقٍ كهذا؟ «أجمل الأشياء هي تلك الصريحة، والشفافة بضعفها، وقوتها، وهشاشتها. نحن جميلين كما نحن. الصوت جميل كما هو، كن حقيقياً، تقنع الناس. أما إذا لم تكن كذلك، وخبأت صوتك خلف الآلة، فهذه ليست حقيقة. الزهرة قد تكون مخدوشة، لكنها جميلة كما هي. كثير من الفنانين يشعرون مثلي بأنهم مكشوفون أمام الآخر؛ أمام جمهورهم. مرة بكيت على المسرح، كنت قد فقدت جدتي وبدأت أغني «سفر برلك»، فبكيت كثيراً على المسرح، فكيف اغني بدون أن أشعر؟». هي دائماً تبكي عندما تتذكر جدتها. جدتها وطفى التي عرفها الناس من خلال «لفي محرمتك»، تلك الأغنية التي ألّفتها الجدة حين قررت وجدّها العودة إلى قريتهما دير الأسد بعد فترة لجوءٍ قصيرة إلى لبنان إبان عام 1948: «كانت مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، إذ إن كثراً استشهدوا أثناء عودتهم» تشير بأسف.


تجيد سناء موسى رواية الحكاية، سواء في حديثها اليومي أو في غنائها. تشير إلى أن القصص تجبرك على أن تشعر بها سواء كانت ضمن أغنية أم لا. «ثم إن هذه الأغنيات وإن «اختبأت» في تهليلة لطفل مثلاً، إلا أنّها تخفي خلفها معنى أكثر عمقاً وشموليةً: أغنية مثلاً تقول: عين وملاني نوم، عين ويا خيط الصبح مفرق ما بين وبين، عين وملاني نوم يا مفرق الخلان... انظر الى هذه القصة كيف لا يمكن ألّا تشعر بها؟ الأغنية كأنها تهليلة لطفل، لكنها فعلياً ليست كذلك، هي فتاة تحكي حبيبها المقاوم المناضل الذي أجبرته الظروف على فراقها مع خيط الصباح، هي تتمنى أن لا يأتي خيط الصباح، هذه قمة قصص الحب في تهليلة. كيف يمكن أن أؤدي أغنية كهذه، من دون أن أشعر بمعنى المطاردة وعدم الأمان الذي يشعر به الفلسطيني؟ أن أشعر بما تشعر به زوجة الثائر، وكم هي فخورة به، وبإنجازاته وما يقدمه لبلده، وكم تتمنى الموت بدل فراق حبيبها؛ فهي إنسانة أولاً وآخراً».
إذاً سناء موسى تغنّي الحب على طريقتها؟ «نعم وأظلُ أغنيه كي لا ننزع الإنسانية عن الفلسطيني؛ أغني كي تحب الأجيال الجديدة وتعشق. أغنّي الناس الذين يستشهدون كي نعيش. إننا شعبٌ يحب الحياة حقاً ويستحقها». ولأننا نحكي عن الشهداء الذي سقطوا كي نستمر، لماذا لم تغني للشهيد باسل الأعرج حتى اليوم، رغم أنهما صديقان أولاً، وزميلان ثانياً، إذ عملا على «باص 47» وهو برنامج وثائقي لتأريخ الذاكرة الشفوية والشعبية الفلسطينية، أعدّه باسل وغنّت هي مقدّمته؟ تجيب: «لم أستطع بعد أن أغني أي شيء لباسل. فأنا كنت أتمنى أن أغني لصديقي في فرحه، لكن أن أرثيه؟ هذا أصعب شيء. باسل حالة مهمّة وهناك العديد من البواسل الذين زرعهم وسينبتون ونراهم عما قريب». تسكت قبل أن تكمل: «هو حالة فريدة. رفض الخضوع والانصياع لما تفرضه السياسة، أو لما هو ممكن، وغرّد كما أراد وأحب من دون قيود».
ضيفة «نادي لكل الناس» تطرح مفهوم الصراع مع الصهاينة ضمن مفهومٍ حضاري ثقافي


ماذا إذاً عن مشاريعها الخاصة الجديدة، خصوصاً أنّ الفارق الزمني كبير بين ألبوميها الأول والثاني؟ توضح موسى: «إن شاء الله، سيصدر الألبوم قريباً ربما خلال السنتين المقبلتين. سيكون هذا إنجازاً بالنسبة لي. يأخذ الألبوم مني الكثير من الوقت لأن التجربة يجب أن تكون مختلفة كل مرة». هل ستبقى ضمن التراث الفلسطيني أم أننا سنرى خلطاً (fusion) مع فنون أخرى من خارج إطارها المعتاد، خصوصاً أنها غنّت الجاز في السابق؟ «أشعر اني ما زلت في البداية. هناك مليون شيء أريد مشاركتكم به. عندي هدف لن أتنازل عنه هو البقاء ضمن التراث الفلسطيني، ولو قمت بمشروع عن موسيقى الكاريبي مثلاً».
تحضر سناء الآن لأمسيتها البيروتية بحماس. نمازحها بسؤال: لماذا أتت إلى لبنان؟ تجيب بابتسامة: «لأنكم لا يمكنكم أن تأتوا إلي أتيت أنا إليكم. جاءتني دعوة فيها الكثير من المحبة والمودة فلبيتها فوراً، وأنا سعيدة جداً لتواجدي هنا بين أهلي في لبنان وبيروت». ماذا سينتظر السامع لحفلتها الليلة؟ تجيب بابتسامتها: «إنها رحلةٌ في أعماق الروح».

* «صوت من الجليل: رحلة إلى أعماق الروح» ـ سناء موسى وفرقتها: 20:30 مساء اليوم ــــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 03/888763

* تحيي الفنانة أيضاً حفلة ثانية في «مركز معروف سعد الثقافي» (صيدا ــ جنوباً ــ 21/4). واحتفالاً بـ «يوم الأسير الفلسطيني»، تحتضن «دار النمر للفن والثقافة» (بالتعاون مع «نادي لكل الناس») في 23 نيسان (19:00) لقاء معها بعنوان «احكيني موسيقى» يديره الزميل بيار أبي صعب