تطلّ المائدة على مباني بيت لحم وأشجارها. يدعو الشاب الوحيد الجالس، النسوة الخمس إلى إعطائه صحونهن كي يملأها بالملوخية. تقترب الكاميرا من الملاعق والأفواه وهي تلتهم الطبق اللزج في فيديو «حساء فوق بيت لحم ــ ملوخية» (2007). سينزلق الحديث بتؤدة، من الفارق بين طعم الملوخية الناشفة والطازجة إلى إمكانية زرعها أمام جدار الفصل العنصري في فلسطين.ببداهة وعفوية، ينبني الجدار افتراضياً حول الجلسة الأليفة.
مشهد من «في المستقبل أكلوا من أرقى أنواع الخزف» (2016)

يصعب تصديق أن من صنع هذا العمل هي نفسها من قدّمت «في المستقبل أكلوا من أرقى أنواع الخزف» (2016). إذ إن لاريسا صنصور (1973) لم تستسلم منذ شريطها الأوّل «دبابة» (2003)، للغة بصرية واحدة، حتى وصلت أخيراً إلى الخيال العلمي كمعادل للتعبير عن القضية الفلسطينيّة. النيات الأولى المتمثلة بالحفاظ على شفافية الوسيط، لتظهير فلسطين، اختفت تقريباً. لا يمكن القول إنها اختفت تماماً. كل ما في الأمر أن الواقع يزداد التباساً وأن انتظار المستقبل وترقّبه لن ينجياه من ضبابية سوداء على الأرجح، كما تقول الحال التي وصلت إليها القضية.
لذا وجدت الفنانة الفلسطينية ضرورة مجاراة التغيرات عبر بناء تصوّر بصري محكم جمالي وتقني يرعى المفاهيم التي تطرحها. قد تبدو لغة الخيال العلمي هجينة عربياً. تعي صنصور هذا جيّداً، من دون أن يجبرها على الخضوع له. أعمالها تنطلق من دحض التصنيفات النمطية بين الشرق والغرب، لتبني خطاباً بتقنيات دول العالم الأول. تبدّل صنصور مواقع القوى. تقتحم الذاكرة الشعبية الغربية ومكوناتها النمطية التي بها ترى الشعوب الأخرى وتؤطرها. في Sbara (الكلمة المقولبة لـ ARABS) وضعت امرأة عربية تلبس النقاب مكان الجثة المتعفّنة التي تتمدّد في مغطس فيلم «شاينينغ» لستانلي كيوبريك، في استعارة كاريكاتورية لمشاعر الرعب الغربية من العرب بعد أحداث 11 أيلول. الفنانة المتفرّدة التي غادرت بيت لحم في عمر الخامسة عشرة لدراسة الفنون في بريطانيا، ثم أميركا وكوبنهاغن، اختارت التعبير عن القضية الفلسطينية بمعناها الأشمل الذي يصلها مع القضايا الكبرى الأخرى. تستعين صنصور باللغة الشعبية العالمية في القصص المصوّرة والأفلام والموسيقى والمسلسلات، كما نرى في ركضها المصطدم أبداً بالحدود والجدران والأسلاك في Run Lara Run، وفي توليفها لأغنية السيتكوم الأميركي Happy Days مع مشاهد عبثية من فلسطين. تكشف الدلالات عن نفسها شيئاً فشيئاً في فيديواتها وصورها. تمررها كتفاصيل صادمة ضمن قالب متداخل ومعقّد أحياناً لتناول مواضيع أساسية في القضية الفلسطينية من الإرث الثقافي، والطعام، والأرض والحدود والاحتلال والصراع الأركيولوجي وتوظيف الأساطير التي بني عليها الاحتلال الإسرائيلي. إذا كانت الرموز الفلسطينية قد أنفقت نفسها لكثرة ما استخدمت، فإن صنصور تحرّرها من الروايات الثقيلة، وتقترح لها أماكن غير متوقّعة. ماذا تفعل الكوفية الفلسطينية على رأس شابة (الفنانة) تجلس في التجمعات العائلية المثالية في إحدى الدول الأوروبية؟ الجواب يأتي من الواقع دائماً، في تهم «معاداة السامية» و«الانحياز للفلسطينيين» التي تلاحقها في المتاحف الأوروبية، والتي بسببها ألغت شركة «لاكوست» الفرنسية قبل أعوام ترشيح صنصور لجائزة تمنحها بالتعاون مع متحف «إيليزيه» السويسري.

ثلاثية الخيال العلمي
تردّد صنصور في مقابلاتها ولقاءاتها، أنها تطوّع الوسائط لخدمة المفهوم. لكن أليست وسائطها رسائل بذاتها، وفق الأكاديمي الكندي مارشال ماكلوهان؟ نتأكد من هذا لدى مشاهدة «هجرة إلى الفضاء» (2009)، و«مبنى الدولة» (2012)، و«في المستقبل أكلوا من أرقى أنواع الخزف» (2016) التي تعرضها «دار النمر» (كليمنصو ـــ بيروت) تحت عنوان «ثلاثية الخيال العلمي». لم تنتقل صنصور إلى لغة الخيال العلمي إعجاباً منها بهذا النمط. كلما صوّرت الواقع الفلسطيني الدموي، كانت تزداد مناعة الجمهور الغربي ضدّ تصديقها. الهرب إذاً إلى الخيال الذي يحتل حيّزاً واسعاً في ثلاثيتها. أن تستعير صورة هوليوود السينمائية، والمفردات الدعائية لاستديواتها، يعني إخراج الفلسطيني من موقع التعاطف واستدرار الشفقة، والمطالبة بحقه في تقديم سرديات قد تقولب الغرب بدورها. قد يخرج من يتهمها بالتوجّه إلى الغرب. وهذا ما لم تنفه يوماً الفنانة التي زارت أعمالها أبرز المتاحف الأوروبية والأميركية. مع ذلك، فإن الخلاصة البصرية الهجينة لها القدرة، في الوقت نفسه، على خلخلة وعي المتفرّج العربي المتوارث عن القضية الفلسطينية. في المعرض، سترافق الأعمال الثلاثة الأخيرة لصنصور مجموعة من التجهيزات الفنية والصور التي تفرّعت من كل فيديو. «هجرة إلى الفضاء» (2009) هو أول الأحجار التي بنت عليها استعارتها العلمية والمستقبلية عن فلسطين. في الشريط (5 د) تحط المرأة الفلسطينية الأولى على سطح القمر. تغرز علم البلاد الجامد وتودّع كوكب الأرض.

لاريسا صنصور في مشهد من «مبنى الدولة» (2012)

تنتقل المشاهد بين الكوكبين، وأخرى تتبع قفزات الرائدة على سطح القمر. إنها «خطوة صغيرة للفلسطينيين، لكنها قفزة عملاقة للبشرية». سرعان ما يختفي التفاؤل، حين تتبدى الهجرة إلى القمر كهجرة أخرى، لكن حاسمة، للفلسطينيين الذين لفظتهم الأرض بعد الاحتلال. على وقع ضربات الوتريات العربية المتصاعدة، سيكشف الشريط عن مشاهد مدهشة وبطيئة لجسد الفنانة بزي أبيض نقش عليه العلم الفلسطيني، أمام الفضاء القاتم المليء بالنجوم. هنا تدفع الفنانة بصورتها من الإنجاز العالمي للبشرية إلى سقوط الفلسطيني المدوي في الفضاء وحيداً متروكاً لمصيره. قبالة الفيديو، هناك عدد من الروبوتات لرواد الفضاء الفلسطينيين المصنوعة من الفينيل، صنعتها الفنانة كما تستثمر الشركات الاستهلاكية أحداثاً كبرى كهذه. وإذ تهرب صنصور إلى المستقبل، فإن رؤيتها وتمثيلاتها له لا تقلّ قتامة عما حصل. إلا أنها قتامة باردة، خالية من العواطف والمشاعر كما في مشروعها «مبنى الدولة» الذي يضمّ فيلماً، وصوراً مولّفة رقمياً. يبدأ الشريط من نفق مترو يصلنا إلى المبنى الشاهق للدولة الفلسطينية. تستهلّه لقطات مقرّبة لصنصور التي تجرّ حقيبة السفر الحديثة كما لو أنها دعاية لشركة طيران. تستخدم اللقطات الثابتة والكادرات الهندسية التي تظهر عناصر مقلّة، فيما ينقلنا المونتاج بفجاجة بينها. أمام سرقة الإسرائيليين للأراضي الفلسطينية، يتمثل الحل الأمثل والساخر في وضع الفلسطينيين داخل ناطحة سحاب. للانتقال بين طولكرم، وشاطئ غزة، والقدس، وبيت لحم، وبير زيت، ما على الزائر سوى استقلال المصعد العملاق. تزوّد الفنانة المعابر بمجموعة من التطبيقات الحديثة التي تطلب البصمات وتقرأ بؤبؤ العين. تتوالى كادراتها الثابتة في السجن الكبير. هناك مفتاح العودة الذي يطالعنا على باب أحد المداخل. تحبس الأنفاس بصور فتاكة مثل السقف المضيء الذي يغطي قبة الصخرة من الأعلى، وأحياء بيت لحم القديمة المعمّرة على البلاط اللامع. إنها مكان عبور فحسب. تصل الفنانة إلى شقتها المرتبة. الإحالة إلى الطعام الفلسطيني مجدداً: الكباب والملوخية والتبولة المحفوظة داخل علب ملوّنة. تأكلها في صحون تحمل دمغة الكوفية الفلسطينية. تعرف صنصور كيف تضع مكونات الهوية الفلسطينية في سياقها الزمني المقبل.

مشهد من «هجرة إلى الفضاء» (2009)

تسقي شجرة الزيتون في لقطة درامية تتلألأ المياه تحتها أمام نافذة لا تنفكّ تحيل إلى المكان الأصلي في الخارج حيث تلوح قبة الصخرة. تصدّق صنصور سردياتها، وتجبرنا على ذلك. تستخدم أعمالها الفنية كركائز لمشاريع أخرى، مثل صحون الطعام المصنوعة من الخزف بنقشة الكوفية الفلسطينية. في تجهيز «خط الإنتاج التحريفي»، تصير هذه الصحون الدلالة الأركيولوجية على وجود الفلسطينيين لدى الأجيال اللاحقة، على غرار كل الحضارات الأخرى التي تركت الأواني والفخاريات لإثبات وجودها. تكشف صنصور، بتهكم، خيوط سرديتها عن قصد. قبالة هذا التجهيز، هناك مجموعة من الصور بالأبيض والأسود للأماكن الفلسطينية الحقيقية التي دفنت فيها الخزف ضمن عملها الأدائي قبل سنوات. بجوارها خريطة فلسطينية تحمل نقاطاً حمراء تدل على هذه المطارح أيضاً. الخطة الجهنمية التي تكشف صنصور عنها، هي نفسها التي تسكن رأس قائدة جماعة المتمردين في فيلم «في المستقبل أكلوا من أرقى أنواع الخزف» (2016 ــ 29 د). إنه أحدث أعمال صنصور، إذ يقوم على الفكرة الساخرة المتمثلة بدفن أواني الخزف بطريقة مفتعلة عبر الصواريخ بهدف بناء وجود للشعب الفلسطيني، في تهكّم على السرديات الأركيولوجية والدينية التي عزّزت وجود الاحتلال الإسرائيلي. يعبر الشريط عن رؤية صنصور وشريكها الدنماركي سورين ليند الذي كتب سيناريو مستقى من خلفيات أكاديمية ونفسية وأركيولوجية تصب في النقاش السياسي الفلسطيني. مراكب حربية سوداء بشكل حشرات كبيرة تقتحم الفضاء. يبدأ الفيلم بهذا المشهد الأبوكاليبتي لينتقل إلى وجه البطلة في حوارها باللهجة الفلسطينية مع الطبيبة النفسية. تتحدّث عن أختها الميتة، وعن أحلامها وخطتها.
تصير الصحون الدلالة الأركيولوجية على وجود الفلسطينيين

تشرّع هذه الخسارة الفردية (في لقطة تجمعها بأختها وهما صغيرتان، وتذكّر بتوأم كيوبريك أيضاً)، على مشاهد خارجية لجبال وأودية مجرّدة ينتفي عنها الزمان والمكان. تنتظر فقط نهاية العالم. كل ذلك عبر صورة علمية خالية من مشاعر الفقدان والخسارة. تتخذ البطلة على عاتقها أمر مفاوضة الزمن عبر تدخلها الأركيولوجي. تبني صنصور أسطورتها الخاصة بلغة تقنية عالية مصنوعة من الوسائط الرقمية والصور الحركية الحقيقية والفوتوغرافية الأرشيفية. تضيع الصورة في الحيّز الواسع للزمن على وقع أغنية «يما مويل الهوى» بأداء تجريبي للفنانة العراقية عايدة نديم. على هذا التعقيد البصري والحواري، يشتدّ سقوط الخزفيات الفلسطينية من السماء كالطاعون في زمن التوراة، بينما تعبر الأشباح المستقبل الذي زرعت فيه خيم النكبة الفلسطينية. إنه ماضي فلسطين الآتي.

* «ثلاثية الخيال العلمي» للاريسا صنصور: حتى 6 حزيران (يونيو) ــ «دار النمر للفن والثقافة» (كليمنصو ــ بيروت). للاستعلام: 01/367013



أنشطة موازية
على هامش المعرض، تنظم «دار النمر» مجموعة من الأنشطة تتمحور حول فلسطين موسيقياً وأركيولوجياً، وفنياً، وميثولوجياً، وعمرانياً. بعدما أقامت صنصور محاضرة وجولة داخل المعرض الأسبوع الماضي، يستكمل البرنامج أنشطته مع الفنانة الفلسطينية صبا عناب التي تقدّم عند السابعة من مساء اليوم محاضرتها «عودات زائلة: الراديكالية، الشاعريّة، واليوطوبية» التي تسند إلى مشاريعها الفنية السابقة حول الفضاءات والبنى العمرانية لمخيمات اللجوء الفلسطينية، متمثلة بمخيم نهر البارد. على البرنامج حصة للأطفال تتمثل بورشة عمل في علم الآثار بعنوان «بَحبشة» (12 و28/4 ــ 5و11/5 ــ س: 11:00 صباحاً)، وبورشة موسيقية بعنوان «اعزف الصورة: أرغن الشارع» مع «مجموعة سوداء» (30/4 و5/5 ــ س: 9:00 صباحاً). وفي الإضاءة على مشاريع وأعمال صنصور السابقة، سيعرض فيلماها القصيران حول الطعام الفلسطيني هما «وليمة سكان المناطق» (2011)، و«ملوخية» (2006) ضمن ثلاثاء الأفلام (24/4 ــ س: 19:00). لا تبتعد محاور البرنامج الموازي عن ثيمات معرض «الخيال العلمي»، أبرزها محاضرة «علم الآثار: التجربة غير القابلة للتكرار» (26/4 ــ س: 19:00) لآندرو بيترسن. سيتوقّف الأستاذ في علم الآثار الإسلامية عند دور توظيف الصهاينة لعلم الآثار لتشييد رواياتهم المزيّفة حول أحقيتهم بالأرض الفلسطينية. الناشط والمهندس في التخطيط المدني إسماعيل الشيخ حسن سيتحدّث عن التخطيط المدني كأداة لدعم اللاجئين الفلسطينيين ونضالاتهم في محاضرة «التخطيط والنضال: تجارب فلسطينية» (10/5 ــ س: 18:00). هناك أيضاً «عندما تغدو الخرافة تأريخاً: الدول، الأمم، الأيديولوجيا، وسرديات علم الآثار» (17/5 ــ س: 18:00) للأستاذ في علم الآثار أسعد سيف الذي يقدّم لمحة تاريخية عن دور الأركيولوجيا في تشريع الدول ابتداء من التجارب الأوروبية، وصولاً إلى لبنان والأردن وفلسطين. يختتم «استوديو أشغال عامّة» البرنامج مع محاضرة «اللعب في المخيم» (24/5 ــ س: 18:00)، حول المقاومة اليومية التي يمارسها الشباب والأطفال الفلسطينيون في ملاعب كرة القدم غير الرسمية داخل مخيم مار الياس في بيروت.