ينتمي كتاب «الصَّدْعُ» الإسباني الذي ترجم أخيراً إلى الالمانية ( der riss. Avant-verlag 2017) إلى فئة تعرف في الغرب، بالرواية الغرافيكية. المؤلفان كارلوس سبوتورنو وغييّرمو ابريل إسبانيان، أحدهما صحافي والآخر مصور، انطلقا، بتكليف من صحيفة «إلبايز» التي يعملان فيها، في رحلة طويلة، عبر البر والبحر، لتغطية حدث سيل اللاجئين السوريين والأفارقة. إحدى مآسي المنطقة التي نعيشها أثرت في أوروبا، وساهمت، إلى حد كبير، أو وظفت، لإحداث شق أو صدع في القارة، بين الدول الليبرالية في الغرب وفيها أيضاً، ودول شرقي أوروبا السائرة في درب الدكتاتورية والعنصرية المكشوفة.استعاد الكاتب بدايات انطلاق أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحررها من النازية الألمانية والفاشية في بعض دول شرقي القارة، وسعيها للتوحد وفق نظام رأسمالي ليبرالي. بعدها ينتقل إلى الكارثة الإنسانية الكبرى التي حلت بالمنطقة، والمقصود هنا أعداد اللاجئين الفارين من المجاعة والحروب والانهيار الاقتصادي، عبر البحر والبر، في طريقهم إلى ما يرونه الأمان المادي والاقتصادي في أوروبا التي استعمرت بلادهم قروناً طويلة. يركز الكاتب في عرضه المصوّر/ الغرافيكي على سيل اللاجئين القادمين من سوريا وإفريقيا، أو الفارين بسبب الحروب فيهما وعليهما.
لا يدخل العمل في سجال سياسي بخصوص أسباب الحرب في المنطقة وعليها، بل يركز على المعاناة الإنسانية للاجئين على نحو أساس، موظفاً الصور التي التقطها المصور للصحيفة، بعد تحويلها إلى غرافيك.
بدوره، يتحدث الكاتب ــ عبر جمل قصيرة ــ عما رآه هو وزميله وعايشاه، وعن معاناة اللاجئين، والأخطار التي تعرضوا لها عند خوضهم البر والبحر في الطريق إلى الفردوس الموعود تاركين التفاصيل للصور.
لا شك في أن مآسي اللجوء وتجربتها، التي نقلتها وسائل الإعلام/ التضليل لنا، هزت مشاعرنا وصور طوابير الرجال والنساء والأطفال المنهكين والجياع وحتى الرضع، وسط الثلوج وتحت المطر المنهمر وفي حقول الوحول، وأمام أسوار وبحار من الأسلاك الشائكة، بل حتى الجنود المدججين بالسلاح التي لا أول لها ولا آخر، ما زالت عالقة في أذهاننا.
كثير من الزملاء من سوريا الذين أطلعناهم على المؤلف لم يقدروا على إكمال مشاهدة المصورات، فقد رأوا فيها إخوتهم وإخواتهن وأخواتهم وأخواتهن وآباءهم وآباءهن، وأمهاتهم وأمهاتهن، وأقاربهم وأقاربهن. الحزن والغضب الملامس لليأس غلب عليهم وعليهن.
الكاتب قال إن الأمر المحزن في المؤلَّف، والداعي للغضب والهلع، أن المصورات ليست تمثيلاً، وإنما الواقع الذي مرت فيه أوروبا، ودروب الآلام التي قادت إليها. من هنا نفهم عدم تدخل الكاتب في المصورات، إذ اقتصرت النصوص القصيرة المكتوبة على شرح الصور وتجربته هو وزميله المصوِّر، وكيفية الوصول إلى المواقع، في اليونان، وفي دروب معاناة اللاجئين في شرقي أوروبا، عبر تركيا التي لم يسمح لهم بالتصوير فيها، ومن ثم عبر اليونان وبلغاريا ورومانيا وصربيا ومقدونيا وكرواتيا والمجر وتشيكيا وسلوفاكيا، إلى أن وصلوا إلى «أرض الميعاد» الألمانية، وكذلك في قلب المتوسط مع البحرية الإيطالية، وعلى حدود أوروبا في شمالي إفريقيا، وفي مدينتي مليلة وسبتة الواقعتين في الدولة المغربية.
مع ذلك، نرى أن الصحافي كارلوس سبوتورنو دان ممارسات بعض دول شرقي أوروبا بحق اللاجئين الفارين من أكثر من جحيم، ودان رفضها منحهم حق اللجوء، السياسي أو حتى الإنساني. كما ينوه إلى قبول دول غربي أوروبا أعداداً غفيرة من اللاجئين، ومنهم ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، ما أحدث صدعاً في أوروبا بين شرقيها وغربيها، ومن هنا يأتي عنوان المؤلف. ينهي الكاتب العمل بالتحذير من أن صعود اليمين المتطرف، والعنصري في بعض الأحيان، في شرقي أوروبا ووصوله إلى السلطة في تلك الدول، ينذر بعواقب وخيمة ستؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة. هنا، ننشر مقتطفات من الكتاب مع ترجمتنا لها، بعد أخذ الموافقة المشكورة من الناشر الألماني.

شهادة 1


اسمه جوزيبي، ويبلغ 38 عاماً، وهو أول من يعد إلى قوارب اللاجئين. أما محياه الخالي من التعبير، فينقل السلطة والتفهم، وهما الأمران المطلوبان في هكذا أوضاع.
قال بالإيطالية: حافظوا على الهدوء.
قام كارلوس بالتقاط بعض الصور وتسجيل فيديو. أحاول تسجيل ما أرى في عقلي بدلاً من تسجيل الملاحظات. كلانا يعرف أننا نعايش أمراً غير عادي. لم نتصور بعد أن تصبح هذه المناظر أمراً يومياً.
وعندما لم يتبق سوى أفراد قلة في الزورق، رفع فلسطيني شارة النصر. إنها نهاية رحلة طويلة، وبداية رحلة أخرى.


شهادة 2


أخبرنا رجل بأن الزورق المطاطي الذي يُفترض أن يوصلنا إلى الشواطئ اليونانية غرق بالثلاثة وأربعين إنساناً الذين كانوا على متنه، على بعد مئتي متر من الساحل. وقد تمكن هو وزوجه وابنتيه من سباحة المسافة المتبقية.
آخرون لم يكونوا محظوظين. ومع نشر صورة الطفل الغريق على الشاطئ، تغيرت الأمور. إنه الطفل أيلان. هذه المأساة دفعت ألمانيا لتوسيع سياستها القاضية بالباب المفتوح. وفي الأسابيع التالية، قد تضاعف عدد اللاجئين الواصلين مرات عديدة.
وقد أخبرنا أنه لم يتم تسجيلهم في اليونان. تم تسليمهم ورقة طرد من البلاد وأجبروا على القيام برحلة حول العالم. كما لم يتم منعهم في مقدونيا وصربيا من مواصلة الرحلة إلى وسط أوروبا.
وفي طريق مرورهم عبر صربيا، اهتدوا إلى محطة القطارات هذه حيث عسكروا تحت راية زرقاء تحوي 12 نجمة.


شهادة 3


اسم هذه البلدة تفارنك، وهي الأولى التي يصادفها المرء في كرواتيا عند مغادرته صربيا. عندما وصلنا، كانت السماء ملبدة بالغيوم والرياح باردة، كما بدأ المطر بالهطل.
وعندما اجتمعنا حول نار المعسكر الدافئة، أخبرتنا أسرة سورية قصتها: أتت من إدلب الواقعة تحت إرهاب تنظيم الدولة. عدد أفراد الأسرة 12 فرداً، قضوا السنين الخمس الأخيرة في مخيم للاجئين في بيروت، وقد تمكنوا من عبور بحر إيجة قبل أسبوع.
أحد شباب الأسرة درس اقتصاد في الجامعة. يتقن اللغة الإنكليزية، وقال لنا: الدول العربية، جميعها، سيئة؛ وأضاف: هدفنا ألمانيا، ربما.


شهادة 4


عند الأسلاك الشائكة يسمع المرء نداءات استغاثة وأيدي ممتدة ووجوهاً مشوهة.
المسؤولون لا يسمحون سوى لبعض الأفراد بالمرور. العائلات تفرقت، والأخوة انقطعوا عن بعضهم. الأصدقاء يُفقدون، والأطفال يبكون لأن عائلاتهم بقيت على الطرف الآخر. يصرخ أحد أفراد الشرطة في مكبر الصوت: رجاء، اثنين اثنين.
أحد أعضاء الإنجوز يعلق ورقة على حائط تحوي رقم هاتف ليتمكن المرء من العثور على أفراد العائلات المفقودين.