(في ذكرى استشهاده الأولى)يحثّك باسلٌ على العمل. هكذا في المباشر؛ يجعلك تشعر بأنَّه عليك أن تعمل أكثر، أن تنتج أكثر، أن تقول كلمتك مهما وقف آخرون ضدّك. يجعلك باسل وفعلُ باسل أكثر بأساً. أذكر أنني قابلت باسل مرتين، لم نتفق في الأولى أبداً، في الثانية بدا أن أصبحنا صديقين. كان نقاشنا الأوّل عاصفاً. تناقشنا حول فلسطيني الداخل والخارج، لم يكن باسل عنيداً لكنه أقر أن معلوماته غير كاملة حول الموضوع.

عدنا والتقينا في المرة الثانية، هذه المرة كانت الأمور أسهل، وكان النقاش أكثر التصاقاً. لفت انتباهي كم هو كثير المعرفة، كثير العمل. بدا أنه يريد أن يقول أشياء كثيرة، لكن الوقت لم يسعفنا البتة.
عاد باسل إلى فلسطين، وبقيت أنا في لبنان. بدا أن الفلسطيني العائد لن يعود مع الفلسطيني المشتبك. وانشغلنا، كلٌ بعمله، كلٌ في أموره الحياتية اليومية؛ لم نكن صديقين على صفحته على الفيسبوك، لا أعرف ما الذي أخّر الأمر، هل كنتُ أنا أنتظر أن يطلب صداقتي؟ لا أذكر. أرسلت له طلب صداقة، طال الأمر. عرفتُ أن وضعه الأمني ليس جيداً، عرفت أن المخابرات الفلسطينية كانت قد طلبته مع مجموعةٍ من أصدقائه، أو ما سمي فيما بعد «خلية باسل». وبدأت الحكاية. وبدأت الافتتان بباسل. لم أكن قد شاهدتُ فيديوهات لباسل الأعرج من قبل، وفجأة بدأت ألمح هذه الفيديوهات التعريفية بعملياتٍ استشهادية، أو زياراتٍ تعريفية لأماكن تاريخية فلسطينية تحمل شواهد النكبة أو الصراع العربي الصهيوني. كان باسل يأخذ دور المثقف العضوي (كما يراه غرامشي)، المثقف الشعبي (كما يراه غسان كنفاني) المثقف المشتبك كما رآه هو. غاب باسل عن الأونلاين، وحدها بعضُ قصص ظللنا نسمعها من أصدقاء مشتركين، باسل هنا، باسل هناك. خمسة أشهرٍ مرت بسرعة البرق، ساهرٌ وحدي وإذ بأحد الأصدقاء يخبرني بأن هناك إطلاق نارٍ كثيفاً في رام الله، سألته أن يعرف ما الذي يحدث. جربنا الحديث مع أكثر من شخص، لكن لم نعرف سوى أن الصهاينة يحاصرون أحد المطلوبين. بدت الأمور أكثر حلكةً. هل في الرام مطلوبون بعد؟ من؟ استمر الوقت يمرُ بطيئاً. عند الصباح، قرأتُ عند أحدهم بأن المطارد كان باسل الأعرج، وأنه قد استشهد. اتصلت عبر الفيسبوك بصديقة مشتركة تجمعنا؛ كان صوتها باكياً حزيناً للغاية. لم أكن قد سمعتُ صوتها من قبل، قالت لي: استشهد باسل. كسر الوقت ساعتها فما سمعتُ بقية ما قالته، لم أسمع حتى ما قلته لها، قلت كلاماً لا أذكره، تحدثت عن الشهداء، عن معتز وشحة، ابراهيم العكاري، رائد الكرمي، عن كثيرين. سكت الهاتف. جلست في مكاني لساعتين كاملتين. لم أكن قد تعودت شرب القهوة بعد. فكرتُ لماذا يستشهد المرء؟ لماذا يخوض هذا الصراع؟ ما هي فائدة أن نفقد أحباءنا هكذا في معركةٍ غير متكافئةٍ من هذا النوع؟ هل هو نوعٌ من عقاب الذات على ما فعله أجدادنا حين خرجوا من فلسطين دون صراع كما يقول مؤرخو الصهيونية الجدد؟ وأن هذه العقدة مصابٌ بها كل الشباب الفلسطيني. ماذا عن فكرة أننا كفلسطينيين شعبٌ مازوشي، يهوى إيلام ذاته، والرواية للصهاينة أيضاً، وقد تبناها باحثٌ مصري من دعاة التطبيع مؤخراً (ولربما سيتبناها غيره لاحقاً). فكرتُ في لحظات باسل الأخيرة: قلتُ ما الذي فكّر به، لم أكن قد قرأت وصيته بعد، لم أكن أعرف كثيراً من معلوماتٍ حول استشهاده، كل ما كنت أعرفه أنه قاوم بشدة، ولأكثر من ساعتين كاملتين (بحسب الرواية الصهيونية) وأن قاتليه كانوا كثراً ومدربين ومدججين بأقوى الأسلحة والعتاد الحربي. إذاً، الأمرُ ليس «تلذذاً» بالألم، كان «ايماناً» بالفكرة؛ والفكرة طالما أنّها حرة... لا تموت. اصرار باسل على الإستشهاد وعدم تسليم نفسه، كان التأكيد على أنّ الأمر أبعد بكثيرٍ من مشاعر نفسية محددة ومدروسة سلفاً: كانت ارادة جبارة للقتال، حتى في أحلك الظروف؛ كان اختياراً شبيهاً بالمسرحيات الإغريقية حين يختار البطل نهايته بنفسه، يمشي صوب البحر، ويعانقه. عانق باسل بندقيته الكارلو وانطلق.
لم يكن باسل مدرباً، كما لم يكن مقاتلاً محترفاً، كان صيدلانياً. لا يعرف كثيرون ذلك: نعم كان باسل مثقفاً، صيدلانياً، ولم يكن محارباً. ليس على الجميع أن يكونوا محاربين. الأسوأ من هذا أن يستعمل بعضهم جملةً من «رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان» ويعتبرها «شعار» المرحلة لشتم كل مثقف لا يحمل سلاحاً، مع العلم أن غسان وسلوك غسان وحياته توحي بتقديره للثقافة، والوعي أكثر بكثير من مجرد «الطخ» و«الطخيخة» (وتظهر كثيرٌ من قصص ومقالات غسان سخريته من السلاح والبندقية غير الواعية التي تطلق الرصاص على صاحبها). حمل باسل السلاح لأنه لم يكن هناك حلول. لم يكن اشتباك باسل مقصوداً أن يكون بالسلاح فحسب، فمكان باسل ليس فقط حمل السلاح. تكمنُ مكانة باسل وأهميته في أنه كان قادراً على تحليل الصراع مع الصهيوني، وفهمه، وإدراكه، وإيجاد مدخلات وطرائق للمواجهة، ليس بالسلاح فحسب ـ وهو أمرٌ واجب- فأزمة القضية الفلسطينية اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى هو في غياب القيادات الشابة التي تستطيع أن تأخذ زمام المبادرة إلى ما هو أبعد من المباشر، أن تنقل الصراع إلى قلب العدو الصهيوني، وإلى عمقه الإستراتيجي وما هو أبعد من ذلك. يستطيع كثيرون حمل السلاح وإطلاقه، لكن قلةٌ قليلةٌ جداً ـ لا تتجاوز أصابع اليد الواحد- تعرف كيفية توجيه سلاح الآلاف من الشباب تجاه عدوهم الحقيقي والوحيد: العدو الصهيوني. كان الشهيد باسل الأعرج واحداً من هؤلاء القلة القليلة. حمل باسل السلاح، لأن هذه المواجهة فرضت عليه، ولأنه كان كأخيه الشهيد محمود الطوالبة أسطورة مخيم جنين، الذي لم يفر حين حاصر العدو المخيم وقال بالفم الملآن: «أنا أهرب من الصهاينة؟ ما فشروا». كان باسل مشتبكاً حتى اللحظة الأخيرة مهما غلا الثمن وارتفع. سقط باسل شهيداً، وفي باله فكرةٌ تحققت: أن تصل رسالته أبعد، أن يستذكره شباب شعبه وألا يتهيّبوا إكمال الطريق خلفه؛ وهو ما حدث مع أحمد نصر جرار، والقادمون كثر بعد.
يحثك باسلٌ الأعرج على العمل، على رفع رأسك أكثر؛ على النظر صوب الشمس. يجعل دمه الطريق أكثر وضوحاً، بلا مؤثرات أو كلماتٍ إضافية أو حتّى حكاياتٍ تروى: هنا كان باسل، هنا استشهد باسل، هنا يستمر باسل بالحياة، هنا ينتصر باسل ويكون.