وأنا أُفرغ، فجرَ اليوم، زيتَ الزيتون الذي عصرناه البارحة في القرية، كان البيتُ الصامتُ وحدُه شاهداً على ما نسمّيها في العائلة: «حفلة الزيت»... هي التي كانت في ما مضى نهاراً صاخباً ينخضُّ له البيتُ بأكمله، كما تنخضُّ القريةُ في موسم قطاف الزيتون وعصره. لكنّني اليوم أفرغتُ الزيتَ لوحدي، وبصمت. وفي الفجرِ الساكنِ على نومِ المدينة وناسها، رحتُ أفكّرُ كيف أنّ هذه الحركات التي أقوم بها، والتي قد تبدو في غاية البساطة، هي في الحقيقة حركات تُعيدنا، كمجتمع، إلى كيفية تعاملنا مع إرثنا وأرضنا وزراعتنا وصناعتنا.
أي: مع أنفسنا. كانت جدّتي تفرطُ الزيتون بنفسها. تساعدُها نسوةُ العائلة وصبيتُها وبعض العمّال من القرية. في الأجلال القريبة من بيتها، وبين شجرات الزيتون المعمِّرة، زرعتْ أشجارَ توتٍ ولوزٍ وتينٍ ومشمشٍ وخوخ. وكان لكلِّ شجرةٍ خيرها وموسمها. وكان أبي المعروف برشاقته يتكفّل في قطف معظمه. حين كنتُ أرافق جدّتي إلى المعصرة الواقعة تحت بيت جدّي القديم، كانت روائح الزيت الذكيّة تملأ أنفي، كما والمكان كلّه. وكان منظر الزيت وهو يشرشر من رقع القشّ في المكبس، يسحرني ويفتح شهيّتي في الوقت نفسه. كانت جدّتي تخبز المرقوق أو «الطلامي» كي نغمّسها ساخنةً بالزيت الطازج. ثمّ كانت تضع الزيت في خوابي ضخمة من الفخّار، مصفوفةً كالشخوص على التتخيتة الكبيرة كبرَ الغرفة. وكانت كلّما أرادت زيتاً، صعدت سلّماً خشبيّاً لتفتح الخوابي وتغرف منها بواسطة «الكفكير». كانت التتخيتة معتمة، ولم نكن نرى منها سوى خيال الخوابي المخيف، وجدتي المنحنية فوقها، بمنديلها الأبيض، تغرف زيتاً.
وعندما ماتت جدّتي، صارت سيّدة من القرية هي التي تضمن أجلال الزيتون. ولم أعد أرى شجرات اللوز والتوت والمشمش والخوخ. لعلّها افتقدت عناية جدّتي، فماتت هي الأخرى. كانت السيّدة «عربية» تهتمّ بأجلال الزيتون، وتفرط الحبّات، ثم تبعث لنا بالزيت. لكن لم يكن لدينا، في البيت، خواب فخارية ضخمة، بل ألفيات كبيرة من الزجاج، مغطّاة بقشٍّ يمنع عنها النور. كانت أمي تضعها هي أيضاً على التتخيتة، التي كنا نرى كلّ ما فيها بوضوح. وعندما انتقلنا للعيش في بيروت، صارت أمّي تُفرغ الزيت مباشرة من «التنكة» المعدنية الثقيلة في ألفيات صغيرة من الزجاج، تضعها في طشت كبير حيث يشرشر الزيت في العملية، فتعود وتفرغ ما وقع في الطشت. ثمّ تلفّ الألفيات الصغيرة بقماش أسود أو داكن وتضعها على التتخيتة. كانت تبدو كالدمى الملفوفة بالقماش. وكان علينا، كلما أردنا إنزال ألفية زيت، أن نزيح كلَّ لفافات القماش لكي نجدها.
ثمّ ماتت «عربية»، وأخذت ابنتها مكانها. «سعدى» هي التي ستعلّمني الكثير مما أعرفه الآن عن الزيتون.. فمنذ سنوات، ذقتُ عدة أنواع زيت زيتون في تجربة مسلية مع بعض الأصدقاء، شارطتهم فيها أن لا زيت يضاهي زيتنا! كنت متأكّدة أنّ زيتنا مميّز، رغم أنني لم أكن قد ذقت غيره طيلة حياتي! واكتشفتُ بأنّه فعلاً كذلك، حينما قارنته بالزيوت الأخرى! فبدأتُ أسأل أبي عن وضع أجلال الزيتون في القرية، ومن يهتمّ بها، ولماذا لا نحصل إلا على كمية قليلة من الزيت، رغم أنّ لدينا كذا «كعب» زيتون. فسّر لي يومها أنّ السيدة التي تضمن الزيتون تأخذ، مقابل عملها، نصف كمية الزيت. سألتُ أبي: لماذا لا نهتمّ نحن بالزيتون؟ فقال: ومن يهتمّ؟! جدّتك ماتت، وأنتم لا تعرفون شيئاً عن الزيتون! فقلت: ما قولك أن أتكفّل أنا بالموضوع؟ تفاجأ أبي وضحك: أنتِ؟! هل لديك أدنى فكرة عما يتطلّبه هذا الأمر من عناية وتعب؟! قلت: أتعلّم! لم يأخذ أبي قراري محمل الجدّ. ولكن أنا، بلى..
هكذا، وفي موسم القطاف الذي تلى، ذهبتُ بنفسي لأتعرّف على «الرزق» (ما أجمل هذه الكلمة على فكرة..). رحتُ إلى أجلال الزيتون، وتعرّفتُ على «سعدى»، التي تضمن «شاياتنا» كما تسمّيها، و«شايات» عمّي. راقبتُ كيف تفرط الزيتون وساعدتُها. ثمّ ذهبتُ معها إلى المعصرة وراقبتُ كيف تتمّ كلّ عملية العصر. وقبل موعد القطاف في السنة التي تلت، قلت لسعدى بأنني أريد التكفّل بأجلال الزيتون من اليوم فصاعداً. تفاجأتْ وضحكت.. لعلّها ظنّتْ أنّ «الدكتورة بنت المدينة»، التي لا تفقه شيئاً في الأرض والزيتون، تريد فقط أن تتسلّى لبعض الوقت! لكنّ سعدى ستصبح لاحقاً رفيقتي في القطاف، وسنتشارك الكثير هي وأنا...

كثُرَت المباني حول أجلال
الزيتون في قريتنا وباتت تحاصرها
من أكثر من جهة

تسلّمتُ تدريجياً كلّ شيء. من الفلاحة والزبل في الشتاء، إلى الحشّ في الصيف، إلى القطاف والعصر في أواخر أيلول، إلى التشحيل في الخريف. بمساعدة عمّال من سوريا طبعاً. تعبتُ كما لم أتعب من قبل. تُرى، كيف كانت جدّتي تقوم بكلّ هذه الأعمال، حين كان لدينا أضعاف ما لدينا الآن من الزيتون؟! نظّفتُ الأرض من الأوساخ، هذه الآفة التي تأكلنا وتأكل طبيعتنا، هذه الآفة الناتجة عن الناس الذين يرمون أوساخهم أينما كان.. ثمّ سيّجت الأرض لكي أحميها من تعدّيات «القوّاصة» الذين يدخلونها للصيد، فيأخذون ما تيسّر من حبّات الزيتون ويتركون لنا خرطوشاتهم البلاستيكية الملوِّثة تحت الأشجار. صرتُ أفرطُ الزيتون بنفسي، مع بعض الأصدقاء والعمّال. نفرط باليد، حبّة حبّة، وليس بالعصا أو الشوكة. تعرّفت على جيراني في الأجلال جنبنا، وصرنا نتشارك الزوّادة وشرب القهوة والشاي. أمدّ حصيرة القشّ العتيقة، وأضع طبلية خالتي شبه المكسورة، وأفرد البيض والحمّص والبطاطا التي أعددتها الليل الفائت، وترموس القهوة التي صنعتها صباحاً.. خلال الفرط، تسلّقتُ كلّ شجرة لكي أشحّلها وأتعرّف على خصوصيّاتها. تعلّمتُ عن كلّ مشاكل الزيتون ومواسمه، كما وعلى كلّ أفراحه. كنت أعود منهكة كلّ مساء بعد القطاف، ثيابي متّسخة، وشعري مليء بكلّ ما علق فيه من الشجر، وحالتي العامّة يرثى لها! لكنني كنت في قمّة السعادة: تلك السعادة التي وحده العمل في الأرض يشعرنا بها. وصرتُ آخذ، وكلّني فخرٌ طفوليّ، الأكياس المليئة بحبّات الزيتون النضرة، المعرَّقة بالندى، إلى المعصرة. سألتُ عمّا إذا كان لدينا بعد، في المنطقة، معاصر تقليدية كالتي كانت على أيام جدتي. لكنّ الكلّ في القرية استغرب سؤالي واستهزأ بي قليلاً: فالمعاصر الجديدة الحديثة المُمَكننة «أسرع وأنظف»، قالوا. ثمّ قيل لي: ربما هناك واحدة بعد، لكن لم يستطع أحد أن يدلّني عليها! فكّرت كيف أننا نضيّع إرثاً مهماً، ونكهات زيت ربما لن نجدها بعد الآن. فكّرت كيف أنّ هذه «الحداثة» التي تبدو لأهل القرى على أنّها تطوّر وتقدّم إيجابيان، إنّما هي تطوّر يلغي الحرفة والحرفيين والإرث الشعبي، بدل الاستفادة منهم.
ذهبتُ من دون حماسة إلى المعصرة الجديدة. رائحة الزيت بالكاد حاضرة. وضجيج الآلات يهيمن على كلّ شيء. صدمني منظر الغالونات البلاستيكية التي تغطّي المكان. أين تنكات الزيت؟ سألت. والألفيات الزجاجية؟ قيل لي: لم يعد أحد يستعملها. احتلّ البلاستيك كلّ شيء. ليس هنا فقط، في الزيت، بل في كلّ أعمال حياتنا «العصرية». هو أيضاً يبدو «حديثاً» لنا. لكننا لا نعي كم أنّه لوّث وسيلوّث بيئتنا، لأنّه يبقى في الأرض لمئات وآلاف السنين.. لكن، بالرغم من غالونات البلاستيك والآلات والمكننة، عشتُ في المعصرة تشاركاً جميلاً مع الجماعة: جماعة قاطفي وعاصري الزيتون من قريتنا والمنطقة. الكلّ يحمل رغيفاً من المرقوق أو الخبز العربي، ويسارع، ما أن ينزل زيته من الحنفية العريضة، إلى تغميس خبزته بالزيت ومضغها بتلذّذ. أذوق زيتنا وأندهش في كلّ مرّة لطعمه اللذيذ، ثمّ أضيّف الموجودين. وبما أنّ انتظار الدور في المعصرة قد يطول، نتروّق ونتغدّى ونتعشّى زيتاً!
فالزيت أكلةً عندنا. ذلك أننا نقطف الزيتون باكراً جداً، في نهاية أيلول. لذلك يكون زيتناً «خضيراً» دسماً قوياً، لكن كميّته قليلة: فهو شبه خال من ماء المطر الذي تنتظره مناطق أخرى لتشربه حبّة الزيتون، فيصير الزيت مائلاً إلى الاصفرار، وطعمه أقلّ حدّةً. أمّا زيتنا فلونه أخضر داكن، وطعمه قويّ يحرق الحلق. وأنا... أحبّه هكذا.
اليوم، في سكون الفجر، لم أفرغ الزيت لا كجدّتي ولا حتّى كأمّي. حملت الغالونات البلاستيكية الصغيرة التي كُتب عليها اسم أبي، وأفرغت الزيت منها إلى ألفيات صغيرة من الزجاج. لففتُ كلَّ واحدة منها بجريدة، ثمّ بكيس نايلون أسود. ثمّ صعدتُ السلّم الألومنيوم، ووضعت الألفيات في كرتونات على التتخيتة، وغطّيت الكرتونات بورق الجرائد. وفكّرت: كلّ ما أستعمله الآن مصنَّعٌ في مصانع. وعدا الزيتون الذي قطفتْه الأيادي، لا شيء ممّا أستعمله الآن هو من صنع أيادي حرفيي بلدي: حرفيي القشّ والفخّار والزجاج والخشب...
كثُرَت المباني حول أجلال الزيتون في قريتنا. باتت تحاصرها من أكثر من جهة. والرزق لا ينفكّ يقاوم الطمريات والأوساخ. لكن إلى متى؟ علمتُ منذ فترة أنّ الأرض الواقعة أعلى أرضنا معروضة للبيع. من هذه الأرض الفوقانية يسيل المطر ومعه كل خيرات الطمي والغذاء على أرضنا الواقعة أسفل. حزنت ويأست. ولم أطلع العام الماضي ولا هذا العام لفرط الزيتون. فقط للعصر. شعرتُ بأنّني تركت الشجرات التي داومتُ على العناية بها منذ أعوام. شعرتُ بأنني أتخلّى عنها: عن أغصانها التي يبست وتحتاج إلى يدي تشحّلها.. عن جذوعها التي تطلب زبلاً أفرده حولها ليغذّيها.. عن أوراقها تتلوّح فضيّةً في شمس الصباح، فلا أملُّ من النظر إليها.. عن حبّاتها الخضراء الدسمة تنتظر نظرتي ثم يدي لتقطفها..
ليتني أستطيع أن أحمي شجراتنا من زحف التمدّن. لكنّني أعرف أنّ ما من شيء يبقى كما هو. فجدّتي ماتت، والباطون اجتاح أراضي الزيتون وكلّ البساتين. وأنا لا أستطيع محاربة العمران الزاحف لا محالة، بجماله في المناطق الغنية، وببشاعته في المناطق الفقيرة. فهنا كما هناك، تتقلّص مساحات البساتين والحقول والأجلال. هنا وهناك يترك الناس أرزاقهم، أو يبيعونها. فما من شباب يعتني بالأرض، وكلفة العناية تفوق ما تعطيه الأرزاق. نحن نصرف على الاعتناء بأرض الزيتون أضعاف ما قد يكلّفنا شراء نفس كمية ما تجنيه لنا من الزيت. وهذه بالتأكيد حال الكثيرين غيرنا. كلّنا في الهوا سوا.. في الأرض سوا. لا يفرّقنا لا دين ولا منطقة ولا انتماء سياسيّ ولا مستوى اجتماعيّ.
نعم. أعرف أنّ الأشياء تنتهي، وهذا لا بأس. ولكنّني لا أعرف، صدقاً، إن كنت سأترك زيتوناتنا للطبيعة تعتني بها، أم أعود وأغطس في الأجلال وبين الشجر، محاربةً كلّ ما يُنبئ بنهاية تلك المساحة الخيّرة في قريتنا.
* أكاديمية وباحثة لبنانية