ساحة بول دومير في مدينة آرل الفرنسية ضوء المساء البرتقالي يغمر العالم... الناس منتشرون على الأرصفة كما في لوحة تعبيرية لكامي بيزارو... على رصيف المطعم الصغير، كانت فيرونيك المرأة الأربعينية ذات المريلة الحمراء والدجينز الأزرق تخاطب صديقها متوترة مندفعة في الحديث غاضبة من الساسة الفرنسيين الذين تحولوا إلى أوليغارشيا كما تقول، أقلية تتحكم في الشعب الفرنسي متخفية وراء نظام انتخابي جعل لحماية هذه الأوليغرشيا. ولا بد من تغيير هذا النظام الانتخابي الفاقد الصلاحية كما تقول... فيرونيك غاضبة من هؤلاء الرؤساء المتعاقبين الذين يبدون صوراً متطابقة لبعضهم البعض رغم اختلاف اللغة وشعارات حملتهم الانتخابية وألوان ملصقاتهم وصورهم التي تمت معالجتها بالفوتوشوب وبعناية ودقة كبيرتين...
يجب ألا نلوم حسني مبارك الثمانيني بشعره الأسود بالكامل مثل رجل في الثلاثينيات أو صبغة زين العابدين بن علي وعلي عبد الله صالح والقذافي لأن الرؤساء العرب لا يشيخون.

الفرق تلك الهالة الحمراء التي تلتمع فوق رؤوسهم والتي تجعل سحنهم غريبة في غياب تناسب وجوههم مع شعورهم السوداء هي سحن شبيهة بوجوه الدمى العملاقة أو قل بوجوه ممثلين في مسرحيات الفودفيل الإيطالية في خمسينيات العشرين...
فيرونيك عيّنة مجتمعية... فيرونيك ليست لوحدها. كل الناس هنا تتحدث عن الانتخابات بشيء من الغضب... الفرنسي متخم بأدبيات الغضب السياسي منذ ما قبل الثورة الفرنسية والكمونة وما تلاها من اضطرابات ومطالبات اجتماعية حتى مايو 68. يبدو الفرنسي الأكثر غضباً ومطلبية من بين الأوروبيين الآخرين. منذ الثورة إلى اليوم، لم يتعب. كما تحسّ أن وراء كل فرنسي ثمة فولتير متنمر يريد أن يصرخ غاضباً من الأوضاع.

فولتير متنمر
يريد أن يصرخ غاضباً
من الأوضاع

التفتت فيرونيك إلى صديقها الجالس حدنا واستمرت:
ــــ هذا شيء مرعب. كل الرؤساء يكررون في أفريقيا وغيرها السيناريو نفسه: يدعمون بقوة الديكتاتوريين. ثم يحاصرون الشعب اقتصادياً، يجوعون الشعب. يشتد الاحتقان داخل هذه البلدان. يشجعون الأطراف المتصارعة على الاقتتال يزودون الطرف الغاضب بالأسلحة. هل تستطيع أن تقول لي من أين جاء الشاب الصومالي بالكلاشنكوف في بلد فيه مجاعة!؟ بعد ذلك، يأتي العمل الإنساني بين قوسين. يرسلون البعثات الإنسانية ويستلمون البلد.
وعقبت: وهناك يجدون نخباً ساذجة خاصة في مستعمراتنا القديمة
وعقّبت في سرّي وكأنّي أواصل حديثها: نخب مصابة بالأعراض الكولونيالية الكلاسيكية احتقار الذات، وتقديس السيد المستعمر، والتماثل الكاذب معه، مستلمين مهماته الكولونيالية التبشيرية.
نخب تؤمن بهدايا بابا نويل السياسية. بابا نويل الذي ينزل في الليل من المدخنة بكيسه المليء ببضائع الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية المرأة والمثلية الجنسية وهدم التراث الذي يمنعنا من التقدم والقبول بالكيان الصهيوني كواحة ديمقراطية... وبقية اكسسوارات
الحداثة.
نخب ريفية في مجملها العام قفزت فجأة إلى ما بعد الحداثة... وهي تعلمنا اليوم هذه الحداثة التي دشنها العبقري حبيب بورقيبة.
تذكرت شكري القوتلي وهو يسلم مقاليد حكم سوريا لجمال عبد الناصر، إذ قال له: انتبه ستحكم شعباً تسعة وتسعون في المئة من أبنائه يعتبرون أنفسهم عباقرة، أما البقية فأنبياء. اليوم يبدو لي أنّ هذا التوصيف ينسحب على غالب النخب والمعارضات العربية التي أوغلت مع المستعمر في سفك دماء شعوبها وهي تحلم بانتصار الثورة وإقامة المدينة الفاضلة بعد أن تكون بلدانها قد تحولت إلى خواء بلقع شبيهاً بالقطب الشمالي
* شاعر ومترجم تونسي