غريب على ضفة النهر، كالنهر... يربطني/ باسمك الماء، لا شيء يرجعني من بعيدي... (محمود درويش ـ مَن أنا دون منفى؟)
مالك شبل... إسلام التنوير | يختلف مفهوم ما أطلق عليه إدوارد سعيد مصطلح «الجغرافيا المتخيلة»، عندما يتعلق الأمر بالدراسات الأكاديمية أو الأعمال الأدبية في الغرب، إذ يبدو أكثر حضوراً وتأثيراً، لأن القادم من الشرق «المُتخيل» في هذا المجال، يعيش مأزقاً دائماً، فهو مطالب دوماً بالنبش في منسوب «الكبت الاجتماعي» والعقد المتراكمة لتقاليد النظام الشرقي واستثمارها في بناء العلاقة الجديدة مع «الحضارة الغربية» المتعطشة لكشف الأسرار النائمة خلف الأبواب المغلقة لـ «الشرق المتخلف» أو «الإرهابي» بدءاً من أحداث 11 سبتمبر.
المتتبع للمسار الأكاديمي لمالك شبل، يلاحظ نقطة أساسية، هي الانطلاق من مجال «الطب والتحليل النفسي» الذي نال فيه أول دكتوراه (1980) حول مسألة «العذرية»، وهذا العنوان وحده كافٍ ــ قبل أربعين سنة من الآن ـ ليسيل لُعاب الغرب «الحضاري» المتحرر، حامل لواء «حقوق المرأة»، ولينصب شراكه لهذا القادم من خلف أبواب الأسرار والمزود بالوسائل المعرفية الضرورية لتقديم أساطير الشرق في أبهى حلة. هذا ما فعله الشاب شبل سريعاً، ففي عام 1988، أصدر «الجنس والحريم روح السراري ـــ السلوكيات الجنسية المهمشة في المغرب الكبير». كان كم الأسرار الجنسية بمختلف تمظهراتها في العالم المغاربي والإسلامي، التي يكشفها هذا الكتاب، أكثر من جرعة قوية لجذب العالم الصناعي المُستلب برفع سقف المتعة، لتسلَّط كل الأضواء على «نبش» شبل المميز في التراث.
بعد سنتين على النجاح الباهر للكتاب، كان بلده الأم الجزائر، يُعلن الدخول إلى مرحلة جديدة. مرحلة لم تكن متوقعة بتلك السرعة في عمر دولة ما بعد الاستقلال، بعد ثورة هزت أخبارها العالم. إنّها مرحلة الحرب الأهلية، التي جاءت تحت شعار صادم وجديد «الحركات الإسلامية». في ظل المعلومات الشحيحة والصورة الضبابية للوضع الدخلي في الجزائر، شكل الإعلام الفرنسي مصدراً عالمياً لنقل الأخبار ومحاولة شرح الكم الهائل من المجازر والدم الذي يغرق فيه البلد، ليبرز اسم مالك شبل بشكل جديد. بعد الدكتوراه الأولى، استمر في الحفر لفهم مجتمعه الأصلي، فنال دكتوراه ثانية سنة 1982 في الأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان من «جامعة باريس السابعة»، فيما نال دكتوراه ثالثة من «معهد العلوم السياسية» في باريس. كل هذا الاجتهاد والبحث الدؤوب والعمل جعلته مهيأً أكثر من غيره لتقديم محاولة تفسير تبدو أكثر إقناعاً حول الإسلام «المُقاتل/ القاتل» الذي يتخذ وجهاً وحشياً في بلده الأم، رغم أنّه كان مستقراً في باريس منذ فترة. لذلك، لم يعاصر تشكّل الحركة الإسلامية التي تحول جزء منها لاحقاً إلى مسلح في ذلك الوقت.
في 2001، لم يعد وجه الإسلام الحديث المرعب حكراً على الشرق، ها هو يستهل القرن الجديد من مانهاتن، ويهدد الحضارة الغربية في عقر دارها. ولذلك، كان على المشتغلين في الحقل الإسلامي - خصوصاً المقيمين في الغرب- تقديم تفسيرات مقنعة، وكان شبل من أبرز هذه الوجوه في أوروبا. مشروعه الفكري أصبح في عين الإعصار، وبدأت انتقادات كثيرة تطاله، فالمسألة لم تعد تتعلق بالإثارة الجنسية وانحراف ميولها نتيجة الكبت الشرقي المتراكم. لذلك أصبحت اشتغالاته الفكرية المتعلقة بالإسلام وجوانب تطوره المختلفة، هي ما يثير الانتباه.
ظل شبل يحفر في التراث، ويطرح بشكل أكاديمي أسئلة مهمة حول الهوية، صادمة بالنسبة للشرق، فهي تستهدف ثوابته لدرجة "استفزازية" أحياناً، و"تنويرية" بالنسبة إلى الغرب ـ خصوصاً فرنسا ـ الباحث عن مخرج يحميه من كم العنف الآتي عبر كليشيهات مختلفة للحركات الإسلامية.
مثل الكثير من المبدعين العرب المغتربين، الذين يشتغلون على مسألة الهوية، وتحديداً الجانب المتعلق بالتراث الإسلامي، واجهت دراسات شبل الذي قلّده الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وسام جوقة الشرف سنة 2008، حروباً وتضييقات مختلفة، في فرنسا والعالم العربي، على حد سواء، رغم أنّ مشروعه «إسلام التنوير»، كان حلاً عملياً بعيداً عن الصدامية مع الآخر بالنسبة إلى الدول التي تغزوها مظاهر الإسلام الوهابي، فهو نتيجة لحاجتنا لـ «إسلام تنوير لا إسلام تكفير» كما ردد شبل. انتقد معظم الأوجه التي يظهر بها الإسلام السياسي كإيديولوجيا وحركات متعصبة أو تمظهر شكلي، ودافع عن «إسلام التسامح والانفتاح واحترام الآخر»، أي الإسلام البعيد عن «الهويات القاتلة»، الذي من شأنه أن يساعد فرنسا على إيجاد حلّ لانسجام ملايين المسلمين المتواجدين على ترابها، من دون اندماج، ولا القدرة على التخلص منهم لأسباب تاريخية وقانونية كثيرة.