اعتبر لبنان منذ ستينيات القرن الماضي بأنه "بلد الحريات" إذا ما قورن بممارسات حكومات ومجتمعات البلاد المحيطة به. إلا أن هذا المعتقد لم يعد سارياً اليوم. بالطبع ثمة هامش من الحرية يتخطى تلك التي تتيحها البلاد العربية المحيطة بلبنان؛ إلا أن تلك الحرية هي حرية مبطنة بضوابط لا يمكن خرقها.مرّ لبنان بحقبات رقابية متعدّدة، أخضعت أعمالاً فنية عديدة- سينمائية ومسرحية - لمقصّ الرقيب. ففي الأربعينيات مثلاً كانت معظم التّدابير الرقابيّة مرتبطة بمضامين جنسيّة أو دينيّة، لتتحوّل في الستينيات كي تطال كلّ الأعمال المرتبطة بـ"إسرائيل". وفي السبعينيات وصولاً إلى التسعينيات نحت الرقابة منحىً سياسيّاً فمنعت بعض الأعمال الموسيقية وكلّ ما هو مرتبط بالدين والسّياسة أو كل ما يعالج ذاكرة الحرب أو يتطرق لموضوعي إسرائيل أو المثلية الجنسية. والجدير ذكره أن منذ اندلاع الحرب الأهلية عام ١٩٧٥، بدأت حرية التّعبير بالانحسار، وباتت الممارسات الرقابية ممنهجة وأكثر تنظيماً من دون الاستناد إلى مسوغات قانونية واضحة أو منصفة. في حين أن الرقابة التي كانت تمارس على الصحف والمجلات والكتب والبرامج التلفزيونية كانت تغلّب آليات الرقابة اللاحقة على الرقابة المسبقة، كانت الأفلام السينمائية والعروض المسرحية تتعرّض لرقابة مسبقة، بحيث يتم تقديم سيناريو الفيلم أو السيناريو المسرحي قبل بداية عملية التّصوير أو قبل تقديم العرض المسرحي للحصول على موافقة. وإذا تم التدقيق في ممارسات هذه الرقابة لوجد المرء أنها تخالف ما ورد في الدستور اللبناني الذي كفل حرية إبداء الرأي. وأن من ينفذّها بشكل مباشر ركن من أركان الدولة أي المديرية العامة للأمن العام وهو لا علاقة له بالفنون أو الثقافة. وما يزيد الأمر صعوبة هو عدم استطاعة منتجي أو مخرجي السينما أو المسرح استئناف القرارات الصادرة عن الأمن العام كما يحصل في حالة الرقابة اللاحقة على الصحف التي تتمثل بشكل أساسي بالمقاضاة وبالتالي حق الدفاع واستئناف القرارات مكفول.
علماً أنّ بعض القوانين التي يستند إليها الأمن العام تعود إلى سنة ١٩٤٧ وما قبل، وهي قوانين خاصة بعهد الانتداب الفرنسي، يتفق عدد كبير من الناشطين الحقوقيين اللبنانيين على غياب أي نصٍّ قانوني يتيح الرقابة المسبقة على الأعمال الإبداعية فضلاً عن أن المواد أو القوانين التي يتم الاستناد إليها هي بشكل عام نصوص إما فضفاضة أو أنها لم تعد سارية أو الاثنان معاً. فالنص القانوني الوحيد الذي يضع نظام الرقابة المسبقة يعود إلى قرار أصدره المندوب السامي الفرنسي في ١٨ تشرين الأول ١٩٣٤ وهو يعتبر باطلاً بسبب إلغاء منصب المندوب السامي الفرنسي. كما أن الرقابة التي تمارس في حالة إجازات عروض الأفلام فهي ما زالت خاضعة حتى اليوم لقانون ٢٧ تشرين الثاني ١٩٤٧ الذي يلحظ بالإضافة إلى الرقابة على الأفلام المحلية، الرقابة على الأفلام المستوردة. ورد في هذا القانون أن القرارات المتصلة بالرقابة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار: الحفاظ على النظام العام، احترام أحاسيس الجمهور، وتجنب كل ما من شأنه إثارة العنصرية أو التحريض الديني أو الطائفي.
وعلى الرغم من صدور قانون عام ١٩٦١ الذي يحيل صلاحيات ممارسة الرقابة على الأفلام إلى وزارة الإرشاد والأنباء والسياحة، إلا أنّ الممارسات والإجراءات الرقابية بقيت منوطة حصراً بمديرية الأمن العام، الأمر الذي يعدّ أيضاً مخالفاً للقانون. في سياقٍ متصل، أرست الحكومة اللبنانية سنة ١٩٧٧ نصاً قانونياً إضافياً عرف باسم المرسوم الاشتراعي رقم ٢ تمّ وضعه بعد سنتين من اندلاع الحرب الأهلية فكان بمثابة تدبير استثنائي إذ لم يتم مناقشته أو التصويت عليه في الهيئة العامة لمجلس النواب مما يؤكد طبيعته الاستثنائية والمرحلية. وفيه شُرّع للمديرية العامة للأمن العام الرقابة المسبقة على الأعمال المسرحية بحيث يتيح للرقيب معاقبة المخالفين بإقفال مكان العرض لمدة سنة والحبس لمدة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات، إضافة إلى غرامة مالية. وما يزيد من مظلومية هذا القانون - الذي ما زال معتمداً حتى اليوم - هو إلغاء المرسوم الاشتراعي رقم ١ الذي وضع بالتزامن مع المرسوم الاشتراعي رقم ٢ الآيل إلى وضع رقابة مسبقة على المطبوعات الصحفية الدورية وذلك بعد أقل من ستة أشهر من إصدار المرسوم بينما بقي المرسوم ٢ المتعلق بالرقابة المسبقة على المسرح سارياً.
ليست مديرية الأمن العام الجهاز الوحيد الذي يطلّع على الأعمال الإبداعية الخاضعة للرقابة المسبقة اذ تحيل تلك الأخيرة أي عمل فيه إشارة دينية إلى الجهات الدينية كدار الفتوى والمركز الكاثوليكي للإعلام ودار الطائفة لمذهب الموحدين الدروز. وبناء على ذلك تطرح العديد من التساؤلات: من يحدّد أن هذا العمل أكان موسيقياً، سينمائياً أو مسرحياً يحترم أحاسيس الجمهور أو لا؟ وهل أحاسيس الجمهور واحدة؟ وإذا ما اتخذ الرقيب قراراً بمنع عرضٍ ما لأنه يرى أنّه لا يحترم أحاسيس جمهور معين؛ ألا يكون في قراره هذا لا يحترم أحاسيس جمهور آخر يرى أن هذا العرض يناسبه؟ ما هو معيار الحفاظ على النظام العام في الأعمال الإبداعية؟ من يستطيع أن يفسّر عبارة "نظام عام" ويفنّد ممارسات أو سلوكيات تهدّد النظام العام في سياق عمل فني؟
تتنافى طبيعة الفن مع المصطلحات الواردة أعلاه. إذ وُجد العمل الفني لطرح التساؤلات ولتخطي المحظور والأفكار السائدة والراهنة مقدّماً رؤية الفنان الفردية للأمور. ليس من وظيفة العمل الفني أن "يحافظ على النظام العام" ولا أن "يصب في مصلحة البلاد" ويُغفل الرقيب أن الجمهور الذي يشتري منتوجاً فنياً أو يرتاد عملاً فنياً- سينمائياً أو مسرحياً أو موسيقياً هو بمعظمه جمهور قرّر طوعاً حضور هذه المسرحية أو هذا الفيلم أو شراء هذا العمل الموسيقي، لرغبةٍ منه في اكتشافه. وهو – اللهم بعض الاستثناءات - جاهز فكرياً وذهنياً لتلّقي هذا العمل وللتقرير بنفسه إن كان هذا العمل "عنصرياً" أو "يثير النعرات" أم لا من دون أن يقرّر عنه أحد ذلك ويمنع العمل مسبقاً. استغلّ الرقيب هذه المصطلحات الفضفاضة، لطمس الذاكرة الجماعية خاصة فيما يتعلق بتاريخ الحرب الأهلية. هنالك فصول متعددة منذ عام ١٩٩٠ لممارسات غير منطقية قام بها مكتب الرقابة تمحورت حول ثالوث المحرمات "الدين، السياسة والجنس". ويبدو أن مديرية الأمن العام تضيّق شيئاً فشيئاً من خناق رقابتها؛ فقبل عام ١٩٩٩ لم يكن هناك رقابة مسبقة على المهرجانات، اليوم باتت جميع المهرجانات تخضع للرقابة. حتى الرقص خضع لتدابير رقابية منذ عام ١٩٩٩ مع عرض "نهضة الشرق" لفرقة "Bejart Ballet Lausanne” وتم حذف مشهد من عرضه يحمل عنوان "طريق الحرير" بحجة أن فيه رجالاً في وضعية الصلاة ونساء يرقصن على أنغام أم كلثوم، مما اضطُر موريس بيجار إلى حذف هذا المقطع واستبداله بمشهد آخر. كما أن الأعمال المسرحية لم تُعفَ من تدخلات عُدّت لامنطقية تابعة لمزاجية الرقيب. فقد تعرضت معظم أعمال المخرج والكاتب المسرحي جو قديح للحذف لا سيما سيناريو نص "فيلم سينما" حيث تم حذف نصف النص من دون الحصول على أي تفسيرات. وتعرض عمل "إنسي السيارة!" المقتبس عن عمل للكاتب اللبناني رشيد الضعيف (٢٠١٠ مسرح المدينة- اللغة الفرنسية) للمخرج المغربي رحيم العسري (Lasri Rahim) للمنع ليوم واحد حيث حضرت الفرقة ١٦ ومنعت العرض بالقوة في ظل التباس حول الموافقة على العرض أو عدمه لتعدل عن قرارها، بعدما تم حذف بعض الكلمات التي اعتبرها الرقيب نابية كعبارة "Penetration” مع العلم أن نصوص الكاتب موجودة في الأسواق اللبنانية. وانتظرت المخرجة لينا خوري سنتين للحصول على اذن لعرض مسرحيتها "حكي نسوان" المستوحاة من كتاب الأميركية إيفا أنسلر "مونولوغات المهبل" الذي رُفض مرات عديدة والذي حصل على الموافقة بعد تعديلات على النص وبعد تدخل وزير الثقافة اللبناني طارق متري الذي تصرف بالمثل في عرض للمخرج اللبناني ربيع مروة "كم تمنت نانسي...” (2007). (How Nancy Wished that everything was an April Fool's joke).
على سبيل الممارسات الطريفة للرقابة، تم حذف اسم المغنية هيفا وهبة في عرضSit Down Comedy 2 (٢٠١٢) لسعيد وجمال ملاعب اللذين قاما أيضاً بحذف اسم إحدى الشخصيات "نجاد الأسعد" مخافةً من تقارب في الأسماء مع الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد. كما تمّ تغيير عنوان مسرحية "الدكتاتور" للكاتب اللبناني عصام محفوظ والتي قامت بإخراجها سحر عساف إلى "الجنرال" (٢٠١٦). ولهذا العمل المسرحي حكاية مزدوجة مع الرقابة تعود لحقبتين. الأولى تعود إلى زمن عرضها عام ١٩٦٨ حيث كان عنوان المسرحية "الجنرال" وقد تم اثر ضغوطات من الرقيب إلى تبديل عنوان العرض إلى الدكتاتور مخافةً من ربطه مع الجنرال فؤاد شهاب، رئيس الجمهورية آنذاك (١٩٥٨-١٩٦٤). واليوم، يبدو زمن الدكتاتوريات عصياً على الذكر ولو حتى في عنوان عرض مسرحي، فتم استبداله بـ"الجنرال". كذلك، لم تتنصل الأعمال المسرحية للأطفال من مكتب الرقابة اذ جرى عام ٢٠١٥ تصنيف المسرحية الشهيرة للمخرج الفرنسي "أوليفييه بي"، "الفتاة، الشيطان والطاحون" (la jeune fille le diable et le moulin) وهي قصة شهيرة للإخوة غريم (Grimm) أنها صالحة لمن هم بعمر الخامسة عشرة وما فوق مانعةً بذلك جمهور المسرحية الأساسي أي الأطفال الأصغر سناً من حضورها.
يتبين عبر سرديات الرقابة أنه في بعض الحالات يتعرّض أصحاب الأعمال الفنية لمضايقات وتهديدات لسلامتهم الشخصية. اذ خطف الممثل الياس الياس على خلفية تمثيله في مسرحية "أمرك سيدنا" (١٩٨٥)، كما تعرّض المخرج لوسيان أبو رجيلي لاحتجاز جواز سفره (٢٠١٤) الأمر الذي منعه من المشاركة في مهرجان مسرحي في لندن، وعندما سأل عن أسباب الاحتجاز قيل له "أنت تعرف لماذا...تذكر ٢٠١٣" وقد عنت الجهة الرقابية مسرحية "بتقطع ما بتقطع" التي انتقد فيها أبو رجيلي الرقابة في لبنان، وعرضها في عدد من الجامعات، اثر حملة نظمتها جمعية مارش الناشطة في مجالات حرية التعبير. ثم تقدم مع الجمعية بطلب الحصول على إذن من مكتب الرقابة، ليتم رفضه بعد مماطلة غير مبررة. والجدير ذكره أن عدداً كبيراً من التدابير الرقابية المسبقة غير موثق لثلاثة أسباب: أولها مرتبط بعدم إتاحة المعلومات من قبل مديرية الأمن العام؛ اذ غالباً ما تُبلّغ تلك القرارات أو الاقتراحات بشكل شفهي. ثانيها مرتبط بخوف معظم العاملين في القطاع الفني من التصريح عن التدابير الرقابية الحاصلة بحق أعمالهم مخافةً من ردات فعل مستقبلية من قبل الرقيب لا تقع في صالحهم. وثالثها مرتبط بضعف التشبيك بين الفنانين أنفسهم وغياب العمل النقابي في هذا الصدد.
تبدو خطوة العمل على إجراء إصلاحات في مجال الرقابة القانوني أمر أساسي. وهذا ما تعمل عليه النواة المحلية للسياسات الثقافية في لبنان مستندة إلى الصفة المرحلية التي اتصف بها مرسوم رقم ٢ من قانون ١٩٧٧ من جهة وإلى حادثة مسرحية مجدلون من جهة أخرى. اذ بينما كانت مسرحية مجدلون (روجيه عساف ونضال الأشقر) للكاتب هنري حاماتي تعرض في مسرح بيروت عام ١٩٦٩، عمدت مفرزة قوى الأمن الداخلي إلى احتلال المسرح ووقفت حائلاً بين الخشبة والجمهور، فما كان من فريق عمل المسرحية إلا أن أكمل عرضه في الشارع ومشى مرافقاً من الأجهزة الأمنية من عين المريسة حيث مسرح بيروت حتى شارع الحمرا وصولاً إلى مقهى الهورس شو. وقد رفع روجيه عساف دعوى قضائية على وزارة الأنباء على خلفية عدم تواجد أي نص قانوني يتيح الرقابة المسبقة على الأعمال المسرحية ولمخالفة أحكام المرسوم التنظيمي لوزارة الانباء ولمخالفة الأعمال الرقابية المادة الثالثة عشرة من الدستور اللبناني ولتناقضها مع شرعة حقوق الإنسان التي وقع عليها لبنان. تم كسب الدعوى. عُدّ ذلك سابقة تاريخية تمتع بعدها المسرحيون في لبنان بحرية واسعة إلى أن اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية فعادت التدابير الرقابية سلاحاً ضارياً في وجه حرية التعبير.
اليوم، تقوم مجموعة من الفاعلين الثقافيين، بمؤازرة من النواة الوطنية للسياسات الثقافية في لبنان، بالعمل عن كثب مع بعض الخبراء القانونيين حيث تم تكوين أكثر من مجموعة تركيز ودُبّر أكثر من لقاء خلال العام المنصرم لمناقشة حيثيات موضوع الرقابة المسبقة على الأعمال المسرحية كما تم بناء صلة وصل مع وزارة الثقافة وبوشر بالتنسيق معها وذلك لحث صانعي القرار على اتخاذ الإجراءات اللازمة للمضي قدماً والقيام بإصلاحات وتعديلات على الصعيد التشريعي.
تتزامن تلك التحركات التي انطلقت منذ عام ٢٠١٥ مع اللقاء الفرعي الذي تعقده الشبكة الدولية للفنون المعاصرة والذي سوف يلقي الضوء على ممارسات حرية التعبير والعوائق التي تحيط بها خاصةً فيما يخص المشهد الثقافي في المنطقة.
نشرت تلك المقالة في الأصل في http://howlround.com