فعلياً، انطلقت عملية البحث عام 2012. الشائع عن كمال جنبلاط (1917 ـــ 1977) يكفي لإثارة العديد من الأسئلة حول تلك الشخصية، سليل العائلة الحاكمة منذ عهود، منذ العثمانيين، الى ما بعد الاستقلال عام 1943 لغاية اليوم. رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وزعيم الأحزاب اليسارية والحركة الوطنية وزعيم طائفة الموحدين الدروز في آن، اغتيل عام 1977، بعد خوضه وقيادته الجولات العسكرية إبان حرب السنتين، واجه فيها أحزاب اليمين والتدخل العسكري السوري في لبنان.
الوقوف في باحة قصر المختارة، الصرح التاريخي الذي سكنه زعماء آل جنبلاط على مرّ العهود، لا يترك انطباعاً يخالف انطباع غسان تويني حين كتب بعد حضوره احتفال إعلان تأسيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» عام 1949: «مولد حزب اشتراكي في حفلة شاي بورجوازية».
لكن مع دخول غرفة كمال جنبلاط الخاصة، الصغيرة والبسيطة داخل القصر الكبير، تبدأ زوايا أخرى في شخصية الرجل في الظهور. شمل البحث جبهات عدة: أرشيف العائلة، أرشيف الأصدقاء، الأرشيف الخاصّ، الصحف، التلفزيون، مراكز البحث، المكتبات، شهادات من عاصره على مختلف المستويات، بخاصة من عرفه داخل المنزل أو القصر أو الخلوة. العشرات من المؤلفات التي تتضمن ما كَتَبه وأشرف على إصداره، وما جُمع من كتاباته ومقالاته ودراساته وما كتب عنه، بين ما أصدرته الدار التقدمية ودور نشر أخرى، ظهر فيها كمال المفكّر، المنظّر في السياسة والاقتصاد، وعلم الاجتماع، والفلسفة، وأيضاً الشاعر والإنسان المؤمن الروحاني، فاستحق أيضاً لقب «المعلّم».

علّق الراحل غسان تويني لدى حضوره الاحتفال: «مولد حزب اشتراكي في حفلة شاي بورجوازية»


كان لا بدّ من العودة لتاريخ هذه العائلة لفهم من أين يأتي لقب «سيّد القصر» الذي أحاط بجنبلاط منذ طفولته في القصر، ودراسة تاريخ هذه العائلة وتاريخ لبنان والجبل والمنطقة، ما دفع المؤرخ الروسي إيغور تيموفييف إلى إضافة فصل عن تاريخ آل جنبلاط في كتابه «كمال جنبلاط: الرجل الأسطورة». والأهمّ كان فتح من جديد صفحات من تاريخ لبنان الذي لم يدوّن رسمياً بعد ولم يطلّع على تفاصيله من لم يشهد أحداثه من الأجيال في لبنان، منذ عهد بشارة الخوري، وكميل شمعون، وفؤاد شهاب، وسليمان فرنجية الياس سركيس وصولاً الى اندلاع حرب الـ75.
سياسياً، يظهر كمال جنبلاط، النائب والوزير المشاكس منذ دخوله الحياة السياسية عام 1943، متمسّكاً بالعلمانية ومحاربة الفساد والمحاصصة. يقود حملات سلمية أو عسكرية لإسقاط رؤساء، ويوصَف بصانع الرؤساء، حتى أنه يمتحن المرشحين للرئاسة. يستقبله زعماء العالم الغربي والعربي ورؤساؤه وملوكه. إنّه قريب جداً من جمال عبد الناصر ومن القيادات الفلسطينية وفاعل في قضيتهم وكفاحهم. باختصار، يظهر بدور أكبر من حجم موقعه السياسي الرسمي الحزبي أو الطائفي. معه عدنا الى الحقبة التي ساد فيها التنافس الفكري والفلسفي بين الأحزاب السياسية ومنظريها، الى مرحلة النقاش بين نظريات ومشاريع سياسية وفكرية واقتصادية. بعيداً عن السياسة التي خاض صاحب كتاب «أدب الحياة» غمارها مرغماً، استطاع جنبلاط أن يلائم جدوله للتفرّغ لمسائل الفكر والفلسفة والطبيعة والتأمّل والمعرفة الروحية، والصحة البدنية ونظام التغذية المتوازن والاهتمام البيئي. من موقعه، كان منظراً وناقلاً ومترجماً لجميع النظريات والعلوم التي تحيط بهذه المسائل، يناقشها في كتاباته، ولقاءاته الإعلامية والندوات التي يلقيها. وهنا يظهر وجه آخر لجنبلاط، مختلف تماماً، عن الوجه السياسي.
في عزّ أيام الترويج للبنان «سويسرا الشرق»، يضيء كمال جنبلاط على ما يتغاضى عن ذكره أو الاعتراف به المسؤولون، عن حزام البؤس في العاصمة، تكدّس الضواحي الفقيرة، نزوح المواطنين من الأطراف المُهْملة، وتركهم للزراعة والأرض، تراكم المشاكل الناتجة من التلوّث وعدم الاهتمام بالبيئة والطبيعة والمناخ.
نتبعه في بحثنا الى الأماكن التي كانت تخصّه. تعكس تفاصيل كل مكان نزوره خلال البحث، مزايا من شخصيته. نلحق به الى الهند التي كان يزورها سنوياً منذ عام 1951، يتذكّره أحفاد الحكيم شري اتمانندا الذي كان يقصده. يتذكرون ذلك الرجل الطويل القامة، الضيف الذي يقال عنه بأنّه وزير وزعيم في البلاد الآتي منها.
يشدّ كمال جنبلاط الشباب في تمرّده على الإقطاعية التي خرج من عباءتها، وعلى التقاليد والأفكار السياسية والاجتماعية السائدة حينها. هو أوّل من سجّل زواجاً مدنياً رغم اقترانه بالأميرة مي إرسلان (ينتميان الى الطائفة نفسها)، ثم استفزّ وخاصم بعض الجيل الصاعد الشاب، عند تمسكه بالعديد من القيم «المحافظة» الأخرى، فطلب الرقابة على الأفلام وقفل بعض الملاهي الليلية ومنع بعض أنواع الرقص الغربي في الحانات، واعترض على الاستيراد العشوائي للأفكار والثقافة الغربية «الهدّامة» وأشاد بالأعمال الفنية والثقافية الهادفة الملتزمة والجميلة، فطرب ومدح بصوت فيروز بعد مشاهدته حفلاً لها والتقائه بالصحافة عند انتهاء الحفل.
كان كمال جنبلاط ينتقد حلفاءه كما خصومه في السياسة. عارضه ويعارضه كثيرون في خياراته وتصرفاته السياسية وغير السياسية. ويعارض نفسه أيضاً وينتقد تقصيره أو عدم تقديره الصحيح لبعض مواقفه من خلال بعض خطاباته في الجمعية العمومية السنوية للحزب أو خلال مقالات أو كتابات قام خلالها بمراجعات للسياسة ودور وفعالية الحزب. لذا، كنا أمام شخصية استثنائية، أشبه بنافذة على كمّ من المعلومات المهمة والأحداث المؤثرة في تاريخنا وتاريخ منطقتنا، لا يستطيع معها البحث أن يتوقف، ولا يستطيع شريط وثائقي أن يجمعها ويقدمها في ساعة ونصف الساعة.

* محمد همدر ــــ باحث/مساعد مخرج فيلم «كمال جنبلاط، الشاهد والشهادة».

*** «كمال جنبلاط، الشاهد والشهادة»: بدءاً من 14 أيار (مايو) في صالات «أمبير» (1269): «دون»، «سينما سيتي»، و«متروبوليس أمبير صوفيل»