رغم تذّمر بعضهم من انشغال العديد من الفنانين اللبنانيين بالحرب الأهلية، إلّا أنها ما زالت تؤرّق ألفريد طرزي (1980)، مكرّساً لها معرضه «أرض شاغرة» في «غاليري جانين ربيز». يميل كثيرون في لبنان إلى طيّ صفحة الحرب. طيّ أعمى يتعمّد التهرّب من مواجهة التاريخ متسلحّاً بقانون «العفو العام» المخجل الذي يحمي المجرمين من المحاسبة من دون أن يمنح على الأقل أهالي المخطوفين والأسرى طمأنينة معرفة مصير ذويهم. لكنّ جيلاً من الشباب اللبناني ينتمي إليه طرزي، يصرّ على عدم طيّ الصفحة، بل يحاول مقاربتها فنيّاً، بما أنّ مقاربتها في المحاكم أمر غير مباح.
وسط الصالة، يقدّم طرزي اقتراح «نصب مؤقت» للحرب الأهلية اللبنانية. التجهيز مؤلف من قواعد من الباطون. من كلّ قاعدة، يخرج عامود حديدي من الفولاذ الصلب. العواميد مصفوفة جنباً إلى جنب على أرض مفروشة بالبحص الأبيض. كل تلك المواد جمعها الفنان من مخلفات مواد البناء. التجهيز المقدّم في الصالة عيّنة عن اقتراح لـ«نصب مؤقت» يقترح طرزي إقامته في وسط بيروت بحيث يدعو أهالي ضحايا الحرب الأهليّة إلى تعليق صور وأغراض شخصيّة ورسائل لأقربائهم الذين فقدوهم خلال الحرب على تلك العواميد. بذلك، يستعيد ضحايا الحرب هوياتهم ويُرفع هذا النصب في ساحة عامة في وسط المدينة المتنكرة لذاكرتها ولفرديّة ضحايا الحرب. المثير للاهتمام أن النصب المقترح يحمل في مواده وتكوينه مفهوم «طور الإعمار». عبر دعوة أهالي ضحايا الحرب للمشاركة في إكمال ذلك النصب، فإنّ طرزي يطلق مشروعاً في «طور إعمار» تاريخ الحرب المهمّش.
في المقابل، يقدّم طرزي لوحة كبيرة وستة أعمال تفاعليّة. في اللوحة، يعيد تقديم مقاربة أخرى للنصب المؤقت حيث يتصدر اللوحة رسم لطفل يحاول عدّ ضحايا الحرب وتحيط به معالم وسط بيروت مثل تمثال الشهداء وتفاصيل من مبنى «ستيتي سنتر». أمّا الأعمال التفاعليّة، فيتألف كلّ منها من صندوق حديدي أو اثنين متوازيين في بعض الأحيان. داخل كلّ صندوق، نرى لفافة من الورق تصل في إحداها إلى 32 متراً، وقد زوّد الفنان تلك الصناديق بآليّة يدويّة تخوّل الجمهور برم اللفافة لمشاهدة الرسوم أو شرائط الصور المولّفة.

تتحوّل الروايات المنسيّة
إلى شريط رسوم وصور

تتمحور مواضيع تلك الأعمال أيضاً حول تفاصيل الحرب الأهلية. في عملين، يتوازى صندوقان عموديان. اختار طرزي في الأول «شرق وغرب» أن يرسم على ورق كبير مجموعة رسوم مستوحاة من خطوط التماس التي فصلت بيروت خلال الحرب ثم شَطَرها في الوسط إلى قسمين ووضع كلّ قسم منها على لفافة في صندوق. وعبر برم كلّ لفافة على حدة، تنفصل الرسوم عن بعضها لتشكل رسومات جديدة تتألف عناصرها من غرب وشرق مختلفين. في العمل الثاني «يسار ويمين»، أجرى طرزي مداخلته الفنيّة في الصندوق الأول فوق لفافة مؤلفة من بورتريهات نشرتها «حركة أمل» لشهدائها. وفي الصندوق الثاني بورتريهات لشهداء «حزب القوات اللبنانيّة». مواضيع أخرى يتناولها طرزي في تلك الصناديق لذاكرة الحرب، منها «أواني» حيث شهادات حيّة لمقاتلين حربيّن يخبرون عن أساليب تخلّصهم من الجثث بعد المجازر، أصعب المهام بالنسبة إليهم. في ذلك العمل وعبر تقسيم صندوقه، يولّف طرزي شريط صوره الفوتوغرافيّة مع نصوص، ثم يقسم الجزء السفلي للصندوق إلى مستطيلات صغيرة محولاً العمل بأسره إلى شريط سينمائي يدوي يتابع فيه المشاهد تسلسل الصور مع النص، إضافة إلى لقطات مقرّبة لمشاهد أخرى. من أبرز الأعمال في المعرض صندوق «عندما تكون الشمس مرتفعة عند الظهيرة» الذي يتابع فيه المشاهد لفافة بطول 32متراً من رسوم طرزي. رسوم يطغى عليها الأسود والأحمر والذهبي، وتتكرر فيها دراسات لذلك النصب المؤقت بأشكال مختلفة، بالإضافة إلى وجوه يستعيدها من زمن الحرب الأهلية، وذلك الرجل المنتصب والمتكرر في سائر أعماله. عنيفة هي رسومات طرزي كما هي الحرب، لكنّها تختزن جمالية خاصة لا تقع في أسلبة العنف بل تعطيه مفردات وألواناً وخطوطاً واقتراحاً لهوية ملموسة يمكن التفاعل معها ومحاولة قراءتها.
ما يميّز أعمال طرزي أنّها تعيد منح ذاكرة الحرب، المهمشة عن قصد، كياناً ملموساً، فتحوّل الروايات والذكريات المنسيّة إلى شريط رسوم وصور يشارك المشاهد في تداولها، وتمريرها أمام أعينه. كأن الفنان يحولّ ذلك التاريخ المروي إلى تاريخ بصري يختار فيه المشاهد أين يريد أن يوقفه عن الدوران، أنّ يجمّده في الوقت، ليتأمل فيه ويحاول فهمه قبل أن يدفعه من جديد فتتدفق الرسومات والصور والروايات والذكريات. بعبارة أخرى، نجح طرزي عبر صناديقه في تقديم أعمال فنيّة بين اللوحة الجامدة وصور الأفلام المتحركة، مسخّراً عناصر الأسلوبين الفنيّين في خدمة سرد تاريخ الحرب الأهليّة.