تميز الموسيقي والمطرب السوري بشار زرقان بكسر تقاليد التأليف الغنائي العام. لم يلتزم قالباً معيناً في معظم أعماله. ترك الكلمة الشعرية تحدد اللحن والمقاطع بحسب الجمل التعبيرية. يقول لنا عشية حفلته الليلة في «مسرح بابل»: «هناك مقاطع شعرية أحسّ بأن موسيقاها في الكلمات، لذلك لم أستطع أن أضيف إليها سوى الإلقاء». لا بل يعطي الكلمة الحق في تحديد القالب الإيقاعي أحياناً.
نرى في «أنا من أهوى» للحلاج، إيقاع اللغة في أقوى حالاته، إذ يقطع ضابط الإيقاع ضرباته بحسب حركات النص، فيأتي الإيقاع مركباً وفق ضغط الكلمة: «فما لي بُعْدٌ بَعْدَ بُعْدِكَ بَعْدَمــــــا، تـَيَقـَّنْتُ أنّ القرب والبُعد واحد. وإنّي وإن أُهْجِرتُ فـَالهَجْرُ صاحبـي، وكيف يصحّ الهجر والحُبّ واحد». منه نتذكر كم أثرت طبيعة اللغة العربية على تنوع الإيقاع الشرقي «السنكوبي» نسبةً إلى نظيره في التقاليد الموسيقية العالمية. «نادي لكل الناس» يقدم «حلاج الأمل» نسبةً إلى أغنية «حلاج الوقت» التي نظمها طاهر رياض من وحي الحلاج. أمسية يحييها بشار زرقان وفرقته الآتية من دمشق الليلة في بيروت. ولد مغني الحلاج في حارة الشيخة مريم في دمشق، حيث التراث الصوفي الذي ينبض بالإيقاع خلال حلقات الذكر والحضرة مثل «يا أولي الألباب»، «اقرأ» وغيرهما. جاءت موسيقاه مطبعةً بهذا التراث من حيث الكلمة واللحن: «لا أعتبر الشعر الصوفي قديماً. أرى مثلاً أنّ هناك معاني قريبة من الناس ولا تحتاج إلى قاموس لفهمها في قصيدة عمر ابن الفارض (1181-1235) «قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي، روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ...». علاقة موسيقى زرقان بالكلمة كانت منفتحة على كل التلاوين والمدارس.

تسيطر مقامات العجم،
النهوند والحجاز على موسيقاه الصوفية والدنيوية

هكذا، غنى الشعر الحديث مع بدر شاكر السياب (1926-1964)، ومحمود درويش (1941-2008)، وطاهر رياض (1956)، والصوفي مع الحلاج (858-922)، ورابعة العدوية (717-796)، وأبو حيان التوحيدي (922-1023) وابن الفارض (1181-1235). يقول: «الرهبة التي انتابتني حين قرأت «هذا هُوَ اسمُكَ... قالتِ امرأةٌ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ...» كانت تشبه رهبتي حين كنت أشاهد حلقات الذكر والحضرة في صغري».
في رصيده أربع أسطوانات متباعدة زمنياً فيما نرى فرقاً في تعاطيه مع أعمال الشعراء. مثلاً، تختلف الترجمة الموسيقية في أغنيات «قمر على بعلبك ودم على بيروت» (1983)، و«سقط الحصان» (2008)، ثم «في البيت أجلس» (2010) لمحمود درويش. يشدد هنا على أنّ علينا كملحنين أن ننضج لنصل إلى مستوى النص، ونطوّر بعد ذلك علاقتنا بأعمال الشاعر. خبرته في «مسرح الصوت» أسهمت في إعطائه منظوراً ثلاثياً في التوظيف الصوتي حيث «بعد القصيدة، وبعد الحركة وبعد الصوت الغنائي». مثلاً، يتناول «جدارية» درويش بثلاث قراءات، أولها جمالية، فموسيقية، فمسرحية. يبحث بعد ذلك في كيفية توظيف الثلاث في سياق واحد لنهاية واحدة، «أريد أن أحيا...». نعم، نتكلم هنا عن «الجدارية» (2002) التي بقيت في خانةٍ منفصلة، ليعتبرها المغني والممثل السوري صفقة كبرى للعمل الموسيقي، فافتتح بها «مهرجان جرش الدولي» و«مهرجان الربيع» الثقافي في البحرين.
«فالنص يحمل دلالات شعرية، مسرحية وموسيقية. هو نصٌ مشاكس في الكلمة التي تنسحب على جنون وإبداع الشاعر». صداقة متينة جمعت درويش وزرقان، إذ افتتح شاعر الأرض «دارة الفنون» التي أسسها زرقان في باب توما في دمشق القديمة عام 2006، فضاءً لحوار المبدعين وورشات العمل في مختلف فنون العرض والكتابة.
مقامياً، تسيطر على موسيقاه الصوفية والدنيوية، مقامات العجم، النهوند والحجاز. مقامات مرنة (غير زلزلية) تستطيع لعبها آلات غربية كالبيانو والكلارينت إلى جانب آلات أخرى يدخلها لتعطي هجيناً صوفياً كالبزق والناي والقانون. لكننا نسمع أيضاً الهزام الشرقي في أعمال مثل «يا هذا»، شعر أبو حيان التوحيدي في أسطوانة «حالي أنت» التي يستهلها على مقام الهزام. ويقترب من نفسه في «مالي جفيت»، حيث نتلمّس شخصية موسيقية فريدة، بل نرى إحدى أجمل المقاربات الموسيقية التي تعاطت مع شعر الحلاج الذي تناوله العديد من الموسيقيين والفنانين العرب منهم أم كلثوم، مرسيل خليفة، جاهدة وهبه، ظافر يوسف... في حفلة «بابل» الليلة، سنستمع إلى ما هو من ألحان زرقان وغنائه بمشاركة ميرنا قسيس في أمسية يصفها بأنها تحاكي الشعب السوري الذي يحلج الأمل على درب الآلام التي سلكها الحلاج والمسيح.

* حفلة بشار زرقان: 20:30 مساء اليوم ــ «بابل» (الحمرا). للاستعلام: 01/343101




سوريا الموت المجاني

يشير بشار رزقان إلى أنه لا يستطيع أن يترجم انفعالاته الحياتية فوراً في الموسيقى. يقول: «ما يحصل في سوريا يحتاج وقتاً لينصهر في وجداننا، ويدخل إلى المطبخ الداخلي ليخرج مادة موسيقية صادقة، ولا أعرف ماذا ستكون مادتي. أنتظرها بهدوء لأنني عاجز عن تقديم عمل يترجم الموت المجاني والتشريد».